مع الإعلان عن أي خبر
"إيجابي" عن دبي، أسارع إلى إغلاق نوافذي الفكرية خوفاً من الإصابة
بالكآبة و الاشمئزاز نتيجة قصف المقارنات بين دبي "الناجحة" و الكويت
"الفاشلة" الذي أصبح يتقنه ثلاثة أرباع الشعب الكويتي و لا يلتفت له عشرة
بالمئة من الشعب الإماراتي المبتلش فينا و بمقارناتنا!!
و الاشمئزاز هنا ليس من باب الحسد
لا سمح الله، لكنه من باب أن أغلب هذه المقارنات مبنية على أساسات هشة لعقول لا
تعرف في دبي سوى شارع "الشيخ زايد" و "دبي مول"، بل أن مفهوم
"التنمية" مشوه في هذه العقول التي لو أُعطي لها القرار في تنفيذ أي
مشروع تنموي (حقيقي) ستجدها ترفضه بكل ما أوتيت من قوة جاهلية.
لذلك أجدني أكتب هذا المقال لعرض
مقارنة - غير تبجيلية - بين نجاح دبي و فشل الكويت.
في البداية، علينا الاتفاق على أن
الأساس الذي قامت عليه مدينة دبي و الكويت و أغلب المدن الساحلية الخليجية هو
الاعتماد على البحر كمصدر رزق من خلال الغوص على اللؤلؤ و صيد الأسماك و العمل في
التجارة و النقل البحري، بالإضافة إلى تنافس موانئ هذه المدن على استقبال السفن
التجارية فأصبحت هذه الموانئ منذ القدم أبرز مراكز تجارة "الترانزيت" في
الخليج.
و لم تتغير هذه الهوية "البحرية
التجارية" لهذه المدن إلا مع نهاية الأربعينيات مع تصدير أول شحنة نفط (من
الكويت) في العام 1946، و بفضل الفوائض المالية الضخمة للنفط، تمكنت الكويت من
التحرر من هويتها "البحرية التجارية" التي تعتمد أساساً على العمل الشاق
لتنشغل حكومة و شعباً في الحقل السياسي المحلي و الإقليمي المتزامن مع انتشار
الفكر القومي في الخمسينيات، و بذلك تحولت الكويت من بلد تجاري مهني إلى بلد نفطي
لا يعمل به سوى الوافدون بينما ينصرف غالبية سكانه للاهتمام بالشؤون السياسية
الإقليمية و المحلية، خصوصاً مع الانتقال إلى فترة الستينيات و إعلان الاستقلال و
الموافقة على الدستور و تأسيس مجلس الأمة و انتخاباته و صراعاته المتتابعة.
هكذا لم يعد في الكويت اقتصاد سوى
الإيرادات النفطية، و لم يعد فيها تجارة سوى المناقصات الحكومية، و لم يعد فيها
مهنيين سوى الوافدين، بينما جيَّر الكويتيون أنفسهم للمد القومي ثم المد الديني و
تحولت مدينة الكويت إلى مركز للـ"ترانزيت السياسي" بعد أن كانت مركزاً
للـ"ترانزيت التجاري".
بالطبع لم يشعر الكويتيون بالآثار
المالية السلبية لهذا الإهمال، فأموال النفط تنجح دائماً في تغطية التكاليف و
زيادة، و لم ينتبه الكويتيون إلى إهمالهم لأنفسهم و بلدهم سوى في الثاني من أغسطس
1990، عندما تعرضت بلادهم للاحتلال خلال سويعات قليلة، و اضطر غالبية الشعب
لمغادرة الكويت و اللجوء إلى المدن الخليجية الشقيقة، هنا فقط أصبح الكويتيون
بمواجهة مباشرة مع دبي بشكل خاص، و الإمارات العربية بشكل عام، علماً بأن دبي في
تلك المرحلة لم تكن تتفوق على الكويت بشيء، لكنها كانت تتمتع بالهدوء النفسي و
الفكري الذي لم يعتد عليه المواطن الكويتي المُسَيَّس.
أما دبي، الهادئة سياسياً، فلم تكن
هادئة تماماً، فقد استغلت التوتر السياسي المصاحب لحرب الخليج الثانية لتنطلق
اقتصادياً بالانسجام مع هويتها الأصلية كـ"مركز ترانزيت تجاري"، لكنها
لم تتوقف عند التجارة البحرية فسارعت بالتوسع نحو التجارة الجوية، و ذلك من خلال
بناء مطار دولي جديد و تطوير الخطوط الجوية الإماراتية، بل ان النجاح الجوي لم
ينسيها الأساس البحري، فقامت بتطوير المنطقة الحرة الملاصقة لميناء "جبل علي"[1]،
و ساهمت القوانين المتسامحة للمنطقة (الحرة) في جذب الشركات العالمية لتأسيس مراكز
إقليمية لها في دبي.
كانت أغلب هذه المراكز - في
البداية - عبارة عن مناطق تخزينية للبضاعة فقط، و كان أغلب العاملين بها من العمال
أصحاب الدخول المتدنية فقط، لكن الانفتاح الاقتصادي و الاجتماعي لدبي و احترام
حاكمها و محكوميها للمقيمين الأجانب ساهم في دفع هذه الشركات العالمية إلى توسيع
مراكزها الإقليمية و إرسال مدراءها الكبار للعمل في دبي لمتابعة مصالحها في
المنطقة.
و مع توافد هذه الطبقة الإدارية
على دبي، أصبحت الإمارة ملزمة بتوفير احتياجاتهم، فانطلقت حركة بناء الفنادق و
قاعات المؤتمرات و المعارض لاستقبال رجال الأعمال من كل حدب و صوب، لكن ذلك لم يرض
غرور دبي، فأصبحت الإمارة تتحدى نفسها في القدرة على جذب "عائلات" رجال
الأعمال لزيارتها و الإقامة فيها فـ وفرت لهم كل ما يحلمون به من أبراج سكنية و مولات
تجارية و أماكن ترفيهية، كل ذلك بمصاحبة المرافق الخدمية و العقلانية التشريعية
التي وفرت لهم بيئة تتفوق في الكثير من جوانبها على بيئتهم الأصلية[2].
بطبيعة الحال، لم يقف أصحاب
الثروات في المنطقة مكتوفي الأيدي أمام هذا النشاط و الحركة الاقتصادية، فتسابق
الكثيرين منهم على نقل أموالهم من بلدانهم الرازحة تحت قيود الانغلاق الاجتماعي و
الفساد الإداري و البيروقراطية الحكومية للاستثمار في دبي التي استقبلتهم كما
تستقبل الأم وليدها.
و بذلك أصبحت دبي "المدينة
الحلم"، أو "المتنفس المثالي" لكل من يبحث عن الحرية في المنطقة،
فمن يريد التسوق يذهب إلى دبي، و من يريد السياحة لن يجد أفضل من دبي، و من يرغب بالتوسع
تجاريا فأهلا به في دبي، و من يريد عقد الصفقات التجارية و الالتقاء برجال الأعمال
لن يجد أفضل من مطار و فنادق و معارض و غرف اجتماعات دبي.
لكن هذا الحلم الجميل لم يأت بلا
كوابيس، فقد نجح النجاح السريع لكل المشاريع الدُبيانية في تورط الشركات المملوكة
لحكومة دبي في اقتراض مبالغ ضخمة (أكثر من مئة مليار دولار) للدخول في مشاريع
تفتقر للجدوى الاقتصادية، و هذا ما أسقط الإمارة في فخ الأزمة الاقتصادية العالمية
في العام 2008، و أصبح الشامتون يتندرون على هذه "المشيخة" الصغيرة عبر
تداول قصص الهروب الجماعي من دبي و مبانيها النصف منجزة[3]،
لكن دبي نجحت في الخروج من مرحلة "عنق الزجاجة" من خلال الدعم القادم من
حكومة أبو ظبي أولاً[4].
ثم من خلال العودة إلى الأسس التي
قامت عليها كمركز "ترانزيت تجاري" ثانياً، و تمكن القائمين عليها من
استيعاب الدرس و التفريق بين الأنشطة المطورة لفكرة مركز الترانزيت التجاري و بين
الأنشطة الأخرى الغير مرتبطة بهذا الهدف، فاستمروا بالأول و ابتعدوا عن الثاني، و
هذا ما ساهم في تجدد الأمل بالعودة إلى النهوض و التغلب على الأزمة المالية من
خلال الفوز (المستحق) بحق تنظيم معرض أكسبو العالمي 2020.
و بذلك نعود للإجابة على سؤالنا
الأول، بماذا نجحت دبي.. و فشلنا نحن!!؟
الإجابة باختصار، هي أن دبي نجحت
في تحديد "هويتها" كمركز ترانزيت تجاري و هي "هوية" منسجمة مع
معطياتها التاريخية و الجغرافية و السياسية، و نجحت أيضاً في تطوير هذه الفكرة من
خلال عدم الاكتفاء بالجانب التجاري فقط، فأضافت إليه الجانب السياحي الترفيهي رغم
التحديات المناخية، لكن نجاح هذا النموذج لن يكتمل قبل تمكنها من الابتعاد عن
منطقة الخطر الاقتصادي بسبب ديونها الضخمة، و هذا لن يكون مستحيلاً مع المؤشرات
الإيجابية الأخيرة كالفوز بحق تنظيم معرض إكسبو 2020 بالإضافة إلى بوادر الانفتاح
الغربي على إيران و التي قد تضاعف أرقام التجارة البينية بين دبي و إيران عشرات
المرات.
أما الكويت.. فقد نجحت في طمس
هويتها الأصلية كميناء تجاري و التحول إلى المركز الأول للـ"ترانزيت
السياسي" في المنطقة، فأصبحت تستورد مشاكل الآخرين و تُصدِّر مشاكلها و
أمراضها للخارج، أيضاً نجحت الكويت في الاعتماد على أموال النفط كمصدر وحيد للدخل
خلال السبعين سنة السابقة دون القيام بأي محاولة جادة لإيجاد مصادر أخرى، و نجحت
أيضاً في خلق – و الإبقاء على - نظام سياسي أحوَل من الداخل و أعرج من الخارج رغم
فشله الدائم و المتكرر منذ اليوم الأول لتطبيقه[5]،
و بذلك، نجحت في التسويق السلبي لأي فكرة إصلاح سياسي يحاول القيام بها مواطنو
الدول المجاورة.
أيضاً نجحت الكويت في تضخيم ذوات
مواطنيها حتى أصبحوا مثالاً للعنجهية و التصلف و عدم احترام الآخرين و القانون حول
العالم، و نجحت في حقن هؤلاء بكل الصفات المتناقضة التي لا يمكن اجتماعها في كيان
واحد، فأصبح الكويتي مغرور و مُحبَط و ساخر و حِشري و مُهمِل و مثالي و جاهل و
مثقف و ثوري في آن واحد!!
لذلك نقول للمتحسرين على فشل
الكويت و نجاح دبي، بأن الخطوة الأولى على طريق النجاح هي تحديد هوية (اقتصادية
ثقافية) حقيقية للدولة، ثم وضع خطة واقعية للوصول إلى هذه الهوية أو الهدف، و يجب
على الجميع الاتفاق على تجيير كل مقدرات الدولة لتحقيق هذا الهدف، و محاربة كل من
يحاول عرقلة هذا الطريق، أما إن بقينا على ما نحن عليه، نتأرجح بين الهويات السياسية
و الدينية و الآيدلوجية، نتصارع على التوافه و نتسابق على المراكز الأولى في
السخافات، فلا طبنا و لا غدا الشر، و الأفضل لنا أن "نبلع العافية" و لا
نشغل أنفسنا و نعطل الآخرين في مقارنات على شاكلة "بُص.. شوف.. بن راشد يعمل
أيه"!!
[2] نذكر منها مول الإمارات الذي احتضن أول منصة
تزلج (داخلية) على الثلج في العالم، و دبي مول بنوافيره الرائعة، و برج خليفة
الأطول في العالم، و جزيرة النخلة و فندق أتلانتس البحري، بالإضافة إلى شاطئ
الجميرة و الفنادق الصحراوية..إلخ.
[3] يقول المثل الاقتصادي "رأس المال
جبان"، و نقول نحن بأن "رأس المال الأجنبي هو أجبن أنواع رؤوس
الأموال"، و بما أن دبي كانت تعتمد بشكل كبير على رؤوس الأموال الأجنبية،
فكانت سرعة هروب رؤوس الأموال منها مضاعفة.
[4] ردت دبي هذا الجميل بتغيير اسم "برج
دبي" الأطول في العالم إلى "برج خليفة" تيمناً باسم الشيخ خليفة بن
زايد آل نهيان.
[5] خلال السنوات الأولى من تطبيق الدستور شهدت
الكويت الأزمة الوزارية و استقالة الحكومة و استقالة رئيس مجلس الأمة و استقالة
نواب الكتلة القومية.