رأيت فيما يرى النائم , أني أعيش في عالم غريب , بل هو عجيب غريب , فالدنيا أمامي كانت مقسومة الى نصفين , نصفها الأيمن ليس به من الألوان غير الأبيض و الأسود , أما النصف الأيسر كانت تكثر به الألوان , هذا كان حال كل شيء في ذلك العالم , المباني و الأشجار و الأرض و السماء
.
و قد كنت في الحلم أتجول بين شوارع هذا العالم , فالشوارع كانت مألوفة , أما ما فيها من مبانِ فكنت أتعرف على بعضها بسهولة , و أجتهد لمعرفة البعض الآخر , لكن اجتهادي لم يثمر أحيانا عن نتيجة إيجابية , و العجيب في ذلك العالم أنه كان يتغير بإستمرار , بل أن الأعجب من ذلك أنني أنا أيضا كنت أتغير بإستمرار معه , و كان هذا التغير يتزامن مع تغير الموقع الذي أقف عليه , فكلما اتجهت الى النصف الأيمن أجدني أهرم و أشيخ , و كلما ازددت عمقا في الجزء الأيسر تظهر عليّ ملامح المراهقة و الشباب
.
لا أنكر في الحقيقة أني كنت أشعر بالمتعة و الإنبهار مما رأيته من حلم , فـ فيه كنت كمن يعيش في عالمين مختلفين في آن واحد , عالم يملأ خلايا جسدي بالحنين على اليمين , و عالم يُشعرني بالتوجس و الإرتياب على الشمال
.
و هكذا قادتني خطواتي الى أحد الدهاليز الواقعة خلف الشارع الرئيسي , هناك , رأيت عمارة تقع على النقطة الفاصلة بين العالمين مباشرة , فكل ما فيها ينقسم بين العالمين , و هذا ما جعلني أتشجع للدخول من بابها الرئيسي , كان الهدوء يسود المكان , أكاد لا أرى شيئاً في صالة الإستقبال غير باب المصعد القديم , و بجانبه مرآة نائمة تحت الغبار , و الى يمينه كرسي كلاسيكي مع طاولة صغيرة , و أما الجانب الأيسر فقد كان مشغولا بـ دَرج أنيق و واسع , فلم أقاوم الرغبة في الصعود الى الأعلى
.
في الطابق الأول وجدت أمامي ممر يمتد على طول المبنى , و على اليمين و اليسار أبواب لبعض الغرف المختلفة المساحة , فـ توجهت مباشرة الى الغرفة الواقعة في المنتصف بين العالمين , دخلت الغرفة فوجدتها مليئة بالكتب و الأوراق المبعثرة , و في المنتصف وجدت طاولة خشبية صغيرة , و على تلك الطاولة كان هناك ورقتان متجانبتان , على الورقة اليمنى كُتِبَ عيد الإستقلال 25 فبراير 1961 , و على الورقة اليسرى كُتِبَ عيد التحرير 26 فبراير 1991 , هنا , وقفت لبرهة أتمعن في الورقتين , و في ما تمثله كل منهما من معاني و ذكريات
.
.
و بينما كنت سارحا في الأفكار حدث ما لم أكن أتوقعه , فقد تناثرت جزيئات الورقتين في الهواء لتعود و تتجسد على شكل رجلين بالغين , لكن ملامح أحدهما توحي بأنه أكبر من الآخر , و بالرغم من عدم وجود علامات تدل على هوية هذين الشخصين , إلا أنني في الحلم كنت أتصرف بشكل يشير الى معرفتي بهُما , فالرجل الواقف على اليمين هو عيد الإستقلال 25 فبراير 1961 , و الرجل الواقف على الشمال هو عيد التحرير 26 فبراير 1991 ! كانت الجدية و عدم الإرتياح ظاهرة على إستقلال , بينما تحرير لا تظهر عليه أي ملامح تُذكر , فكأنه متململ أو غير مكترث بما يجري حوله
.
هنا , بدأ إستقلال بالحديث قائلا
.
إستقلال : ما خطبك يا هذا ؟
.
تحرير : هل تتحدث معي أنا ؟
.
إستقلال : نعم , اتحدث معك أنت
.
تحرير : و لماذا تتحدث معي بهذه اللهجة ؟ هل ضايقتك بشيء ؟
.
إستقلال : لا , لا أعتقد أنك تتعمد مضايقتي , لكني أشعر بالضجر , أو بالأصح أشعر بالظلم من تواجدك الدائم الى جانبي , و إرتباطك التاريخي بي
.
تحرير : هه ! ماذا تقول يا هذا ؟ كيف تتكلم معي بهذه الطريقة أيها العجوز الهَرِم ؟ ألا تعلم بأنني السيد تحرير , سيد المناسبات و الأعياد الوطنية في تاريخ هذا البلد ؟ فعند مولدي انتصر الحق على الباطل , و عادت البلاد الى أهلها و قيادتها الشرعية بعد سبعة أشهر من الظلم و القهر , لم أكن أعلم أنك تجهل هذه المعلومات حتى تتفوه بما قلته ! ضجر و ظلم لأني بجانبك ! بل عليك أن تحمد رب التأريخ و تشكره على هذا الجوار , و أن تتشرف بهذا الإرتباط مع الأشراف
.
إستقلال : بالضبط , هذا ما كنت أتكلم عنه , فـ أين العدالة في وضع الحكماء الى جوار المتعجرفين الجهلاء ؟ و أين الحق في ربط إنطلاقة النهضة بـ خط بداية الإنحدار ؟ أيها الشاب المُغتر , أنصحك بالكف عن ترديد هذه الكلاشيهات , فأنا خير من يعلم من أنت و ماذا حصل في مولدك , لكن العبرة ليست فيما حدث في هذا اليوم , بل الأهم هو ما حصل بعده , هنا ستعرف الفرق بيني و بينك , مع أني أشك في ذلك
.
تحرير : لقد تجاوزت كل حدود اللباقة يا صاح , لو لم تكن في عمر والدي لكان لي معك كلام آخر , فأنا لم أتهجم عليك حتى تقلل من شأن يوم مولدي , هل تعلم كم دولة و جيش شاركت في العملية التي تسببت في ميلادي ؟ ألم تسمع بـ عاصفة الصحراء يا عاصفة الجهل و الملل ؟
.
إستقلال : هكذا أنتم أيها الشباب , تقضون أغلب أوقاتكم في الحديث عن أصولكم و فصولكم , من أين أتيتم و كيف كان ذلك , لكن صفاقة الغرور تعميكم عن الحديث عن اعمال سواعدكم ؟ نعم يا تحرير , اعلم بأن جيوش 33 دولة ساهمت في ولادتك , لكن قف لِـ برهة من الزمن و صارح نفسك , هل كان يستحق ميلادك كل هذا الجهد و العمل ؟ فما الذي حققته بعد ميلادك ؟ ما هي إنجازاتك ؟ الجواب هو لا شيء
.
فأنت لا زلت تتصرف كـ طفل أحمق مدلل , يقتات على إنجازات من سبقه و ينسبها لنفسه , فالثروة التي تنعم بها و لا تتوقف عن نهب ما تبقى منها هي من إنجازاتي أنا و ليس أنت , و التعليم الذي يعينك على التطور في الحياة أنا من أسسه و لم تطوره بشيء , أما صحتك التي تراها فأنا من حافظ عليها و أنت من تهدمها بـ جهل يدك , و لا حاجة لي هنا للحديث عن الإنجازات السياسية و الاقتصادية و الفنية و الرياضية , فـ كل إزدهار أنا بنيته , و كل إنهيار أنت رعيته , لذلك , عليك أن تخجل من نفسك قليلا , و أن لا تنساق وراء الأكاذيب و دعايات النفاق التي لم نعرفها إلا بعد مولدك
.
تحرير : هه , يقول المثل , الكلام أسهل من الأفعال , هكذا أنتم أيها الشيوخ ( كبار السن ) , لا تكلّون و لا تملّون من نقد و تحطيم من جاء بعدكم , فالأنانية تجعلكم تريدون أخذ نصيبكم و نصيبنا معكم , يجب أن تعلم يا إستقلال بأن المقارنة بيني و بينك غير عادلة , فـ ظروفي تختلف تماما عن ظروفك , فأنت لم تولد بعد حروب , و أهل زمانك لم يُشتتوا في بقاع الأرض , و لا أنسى هنا بأن بناء البيت من الأساس أسهل في بعض الأحيان من إعادة ترميمه
.
نعم , أنا لا أنكر عليك إنجازاتك , لكن عليك أيضا أن لا تنكر بأن ما ورثته منك هو أحد الأسباب الأساسية لـ عجزي الآن , فـ فشلي هو الإمتداد الحقيقي لنجاحاتك , و عليك تتحلى بالشجاعة للإعتراف بذلك , و ربما أراد القدر أن يؤكد على هذه الحقيقة بـ جعل تاريخ ميلادي بعد يوم واحد من تاريخ ميلادك
.
إستقلال : ما هذا الإفتراء الخبيث ؟ من أعطاك الحق بخلط الحابل بالنابل و تنصيب نفسك و أهلك كـ إمتداد تاريخي لي و لأهلي ؟ نعم يا صديقي نحن نعيش و نمثل نفس الرقعة الجغرافية لكن ذلك لا يجعلنا نفس الشعب , فالعرب عاشوا في أسبانيا و هذا لم يجعلهم أسبان ! و الإنجليز عاشوا في بلاد العرب و هذا لم يحوِّلهم الى أعراب
.
أنا و أنت كائنان مختلفات رغم تشابه الأشكال و الأسماء , و الشعب الذي صنعته – أنا - مختلف تماما عن المسخ الذي أنتجته – أنت - , فـ الكويتي الذي أعرفه كان صاحب عزيمة و كفاح , يعرف نفسه من خلال وطنه , و يُكرم بلده بإكرام من يعيش فيها بغض النظر عن الفروقات المادية و الإجتماعية
.
ثم أدار إستقلال ظهره لـ تحرير و استمر في الكلام
.
أما أنت فماذا صنعت ؟ صنعت كويتي لا يحترم نفسه بعدم إحترامه لغيره , و قبل أن تزعجني بأعذارك التافهة تذكر أعياد ميلادك ؟ ميلاد البطل الذي شاركت في ميلاده جيوش 33 دولة , هل لك أن تذكرني بطريقة احتفالك و كويتيّوك بهذه المناسبة ؟ تخرجون الى الشوارع كالهمج ليتقاذر أحدكم على الآخر , و المصيبة أن القاذِر و المقذور يضحكان كالمخابيل على هذه الأعمال البربرية , خبرني يا تحرير , هل يعرفك أهل زمانك حتى تطلب مني معرفتك ؟ هل يحترمك كويتيوك لتطلب من احترامك ؟
.
دعني أصارحك أيها التحرير , أنت لا تستحق الإحترام لأنك تقبل الإهانة التي لا يقبلها أي عيد محترم على نفسه , و ما يشعرني بالتعاسة هو أن الحمقى و المجانين أصحابك دمجوا الإحتفال بي مع الإحتفال بك , و بهذا نَسِيَني أهلي بسببك , لهذا أنا أشعر بالضجر , أو الظلم من تواجدك الدائم بجانبي , فماذا تقول في ذلك ؟
.
في تلك اللحظة استدار إستقلال لمواجهة تحرير فتفاجأ بعدم وجوده أمامه , بل أنه لم يعد الى طبيعته الأولى ورقة على الطاولة , فهل يا ترى أين ذهب التحرير؟
.
لم أحصل على إجابة لهذا السؤال , حيث أنني استيقظت فجأة من النوم , و لم يكن على لساني بعد البسملة غير كلمة الله يحفظك يا كويت