أربعة أيام قضيناها بين الدموع
والذكريات التي تربط كل منا بالفنان الراحل الكبير عبدالحسين عبدالرضا، وكان من
شبه المستحيل أن يبدأ المرء بالكتابة دون أن تتسلل عاطفته ودموعه لتتسطر أمامه على
شكل كلمات وجُمَل على السطور، فالراحل الكبير كبير بكل شيء، والإحاطة بإسهاماته وإنجازاته الفنية والإنسانية والوطنية والخيرية والشخصية لا يمكن أن يتم اختصاره في مقال واحد
أو عدة فقرات.
ولذلك كان لا بد لي من الانتظار
قليلا حتى تهدأ النفس وتتزن العواطف كي أضمن أن ما سأكتبه يحاكي العقول قبل القلوب،
والأفكار قبل العواطف.
ولأنني لا أعطي لنفسي ’’شرف‘‘ الادعاء
بالاختصاص في مجال النقد الفني وأساليب تقييمه، أصبح من الأفضل لي أن لا أهرف بما
لا أعرف، وأن أترك هذه المساهمات لمن هم أخبر وأفضل مني في هذا المجال، إلا أنني
من المهتمين في مجال التاريخ والتأريخ، وأعتقد أن للمرحوم أبو عدنان[1]
إسهامات مهمة وجوهرية هذا المجال، خاصة فيما يتعلق بتوثيق ما لم يتم توثيقه من تاريخ
الكويت والمنطقة.
فالمؤرخ، ومهما حاول أن يعتصر عقله
وقلمه، لن يتمكن من نقل العناصر اللا ملموسة من الحدث بدقة، خاصة عندما تتمثل هذه
العناصر بالمشاعر والنَظَرات والحالات النفسية والتفاعلات الجسدية، وهنا يأتي دور
الفنان المسرحي أو التلفزيوني ليؤرِّخ ما لم يؤَرَّخ له، ولينقل للمتلقي ما تعجز
الأقلام عن نقله.
وعند الحديث عن عبدالحسين
عبدالرضا، أقول دائما بأن أحد أهم عيوب أبو عدنان هو قدرته الخارقة على إضحاك
الناس وتحويل كل موقف مهما كان حزينا أو جادا إلى لحظة كوميدية تنفجر فيها الضحكات
والابتسامات.
ورغم أننا من أنصار نشر الابتسامة
على وجوه الناس وعلاج الكآبة والسلبية بالضحك والقهقهة، إلا أنني أجد أحيانا أن انخطاف
قلوب الناس وأفئدتهم مع الجانب الكوميدي لأعمال الفنان الراحل تجعلهم يفقدون متعة
التلذذ والتركيز بالقيمة التاريخية لأعماله، خاصة وأن هذه الأعمال تحدثت عن مراحل
حساسة في تاريخ الكويت والأمة العربية التي تستحق منا الدراسة والتمعن في معانيها
واستخلاص العبر منها، وقد اخترت في هذا المقال أربعة أعمال خالدة للفنان أبو عدنان
أود أن أوضح أهميتها التاريخية.
مسلسل درب الزلق
تم إنتاج المسلسل في العام 1977م،
وكان من تأليف الفنان الراحل عبدالأمير التركي وبطولة أساطير الكوميديا الراحلين
خالد النفيسي وعبدالعزيز النمش وعلي المفيدي وعبدالحسين عبدالرضا بالإضافة إلى الفنان
سعد الفرج أطال الله في عمره.
ويعتبر هذا المسلسل ’’حقل ألغام‘‘
كوميدي لا تمتلك أمام كل لقطة من لقطاته سوى أن تمسك بطنك من الضحك، إلا أن ما
يغفل عنه المشاهد دائما هو القيمة التاريخية العميقة لهذه القصة، فالمسلسل يتناول
فترة مهمة من تاريخ الكويت وهي مرحلة تصدير النفط وتعاظم ثروات البلد والقرار
التاريخي للسلطة بـ’’توزيع الثروة‘‘ عبر التوظيف والتثمين.
وقد وثّقت أحداث المسلسل كل ما
يتعلق بعملية التثمين من تجاوزات وعدم مساواة بين طبقات المجتمع وما صحبها من
ظواهر نفسية واجتماعية كان أهمها الغرور المفاجئ الذي أصاب أبناء الطبقة العاملة
وتمردهم على الطبقة التجارية وهَوَس الثراء السريع الذي أوقع الكثيرين منهم في
أفخاخ النصب والاحتيال التجاري أو ’’درب الزلق‘‘ كما يشير إليه عنوان المسلسل.
ورغم وجود كتب قليلة تناولت عملية
التثمين إلا أن مسلسل درب الزلق يعتبر المصدر الأول لمعرفة الجوانب الخفية وغير
المؤرخة من هذه العملية.
مسرحية باي باي لندن
تم إنتاج هذه المسرحية في العام
1981م، وهي من تأليف الأستاذ نبيل بدران، وقد شارك فيها إلى جانب أبو عدنان
الفنانين الكبار غانم الصالح ومحمد جابر ومريم الغضبان والنجوم الشباب – آن ذاك –
داود حسين وانتصار الشراح وهيفاء عادل.
وتعتبر المسرحية من الأعمال
الخالدة للمسرح الكويتي، ورغم أنها تتناول قصة ’’شخصية‘‘ للتاجر الكويتي ’’شارد بن
جمعة‘‘، إلا أنني أجدها توثق مرحلة تاريخية مهمة وهي مرحلة ما أسميه ’’الانتفاخ
الخليجي‘‘ بعد تصاعد أهمية الخليج اقتصاديا وسياسيا على مستوى العالم وذلك بعد
قرار دول الخليج التاريخي بقطع النفط عن الدول الغربية بسبب دعمها لإسرائيل في حرب
الـ1973م.
وقد ساهم هذا القرار بسحب دول
الخليج بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص بساط القيادة السياسية في
منطقة الشرق الأوسط من مصر وإيران والدول الأخرى، فأصبح الخليج رقم صعب على الساحة
الدولية ولم يعد مجرد تابع كما كان في السابق.
وبطبيعة الحال، انعكس تصاعد أهمية
هذه الدول والازدهار الاقتصادي المصاحب لها على شخصية المواطن الخليجي الذي أصبح
يصطاف في أرقى المدن الأوربية ويفرض عليها عاداته وتقاليده الـ Pre Civilized بالنسبة لهذه الدول ومواطنيها، إلا أنهم اضطروا للتأقلم والانصياع
لرغبات السائح الخليجي بغية الحصول على فوائض أمواله البترودولارية.
ولم أجد شخصيا عملا آخر سواء كان
مكتوبا أو مشهودا ينقل هذه الحالة كما نقلتها لنا مسرحية ’’باي باي لندن‘‘.
مسرحية فرسان المناخ[2]
تم إنتاج هذه المسرحية في العام
1983م، أي بعد انفجار أزمة سوق المناخ مباشرة، وهي من تأليف الفنان عبدالحسين
عبدالرضا الذي كان أحد الذين خسروا أموالهم في هذه الأزمة، فجاءت المسرحية غاية في
الصدق والدقة التاريخية.
وتأتي أهمية هذا العمل في أنه تحدث
عن المسكوت عنه من ظواهر اجتماعية واقتصادية صاحبت هذه الأزمة، بما في ذلك التخبط
الحكومي وغض الطرف عن التجاوزات لمصالح بعض الشخصيات المتنفذة، فلولا هذا العمل
لما كان لدينا توثيق لتطورات الأزمة وتدرجات مراحلها، ولما عرفنا هوس تحقيق الأرباح
الفلكية الذي اجتاح المجتمع فجعل الناس تترك أعمالها الوظيفية والمهنية وتضع كل ما
لديها في السوق.
كثيرة جدا هي التفاصيل الدقيقة
التي جاءت في هذه المسرحية والتي لم نجد عملا كتابيا أو مرئيا يضاهيها في توثيقه،
وذلك باستثناء فيلم أنتجه وزير التجارة الحالي خالد الروضان في العام 2012م، أي
بعد ثلاثين سنة من الأزمة، وقد بقي هذا الفيلم حبيس الأدراج للأسف.
مسرحية سيف العرب
تم إنتاج هذه المسرحية في العام
1992م، وهي من تأليف الفنان عبدالحسين عبدالرضا الذي عاصر الاحتلال العراقي للكويت
وعايش يومياته كمواطن صامد في وطنه، ولذلك تمكن المرحوم من نقل هذه المعاناة
اليومية التي عايشها الكويتيين مع قوات الاحتلال بشكل دقيق تعجز عنه الأقلام والكتب.
على سبيل المثال وليس الحصر، سلّطت
المسرحية الضوء على الانقسام الذي أصاب أغلب العوائل الكويتية بين من يشجع على
الرحيل عن الكويت ومن يريد البقاء فيها رغم ما يعانيه من مخاطر تحت سلطة الاحتلال،
أيضا ركزت المسرحية على الحِيَل التي ابتكرها الكويتيون للاستمرار في حياتهم دون
التصادم مع جنود الاحتلال وقواته.
وقد يكون أبرز ما نقلته هذه
المسرحية هو الاختلاف في تصنيفات القوات العراقية من ’’جيش شعبي‘‘ و’’حرس جمهوري‘‘
وعناصر ’’الاستخبارات‘‘، والطريقة التي تعامل فيها الكويتيون مع كل منهم، كل هذه
التفاصيل تجعلنا نهتم في هذه الأعمال ونعود دائما إلى حيثياتها للاستفادة من
قيمتها التاريخية بالإضافة إلى قيمتها الفنية والكوميدية.
وهذا ما يجعلني أختم هذا المقال
بالترحم على روح الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا، وتقديم العزاء لعائلته الكريمة
بالإضافة إلى الشكر الجزيل لحضرة صاحب السمو أمير البلاد على كل ما بذله من جهود
لتكريم هذا الفنان وإعلاء شأن الفن في البلاد.
وأتمنى أن تحظى أعمال هذا الفنان
وغيره من الفنانين بالمزيد من الدراسات الجادة المعنية باستخلاص القيمة التاريخية
منها وعدم الاكتفاء بما فيها من مشاهد كوميدية وفنية.
[1] عندما نتكلم هنا عن عبدالحسين عبدالرضا فنحن
لا نتكلم عنه كشخص منفرد، ولكننا نتكلم عنه كـ جيل وفريق وإنجازات شاركه فيها
الكثير من الفنانين العظماء الذين لا ينبغي أن يتم تجاهلهم أو نسيانهم، سواء كانوا
من نجوم الشاشة أو نجوم ما خلف الشاشة من تأليف وإخراج وتصوير وغيرهها من الفنون،
وبذلك يكون كل ما سيُكتب في هذا المقال مرتبطا بهم أيضا.