Sunday, December 27, 2015

ماذا سيأكل الحوت إذا نشف البحر!؟



كعادتها دائما.. طالعتنا صحيفة ’’الراي‘‘ بخبر على صفحتها الأولى مفاده أن الحكومة تنوي تقليص ’’الدعوم‘‘.

وكالعادة أيضا.. اشتعل فضاء تويتر بمئات التغريدات التي ترفض هذا التوجه الحكومي عن بكرة أبيه، وبدأ كل مغرد يفضفض عن رأيه بالموضوع حسب درجة ملله من دوامه، فهذا يهدد الأصنام الحالية، وذاك يترحم على أصنام الماضي، وهذا يتمسكن، والآخر يُنظِّر.

وكل ذلك لا يهمني، فأنا لست ضد الفضفضة في الفضاء التويتري، خصوصا وأن أغلب هذه التغريدات ستتبخر مع موعد انتهاء ’’الدوام‘‘ وتوجه الموظفين لبيوتهم سالمين غانمين.

لكن ما لفت نظري من منظور ’’تأريخي‘‘، هو تلك التغريدات التي تُروج لفكرة أن ’’التُجار‘‘ أو الأثرياء هم من يقف وراء توجهات الحكومة لتقليص الدعم عن ’’الكادحين‘‘ والفقراء.

وهذه الفكرة أصبحت للأسف شبه مُسَلَّمَة فكرية بين الكويتيين، خصوصا بعد تدشين النائب السابق مسلم البراك معركته ضد خصومه تحت عنوان ’’الحيتان‘‘.

ما أثارني هنا هو سخافة هذه الفكرة التي يروجها أو يتعاطاها الجميع كـ مُسَلَّمة لا تقبل الشك أو التشكيك، وكأن التاجر أو الثري (اصطلاحا) هو شخص ينزعج من تمتع الآخرين وخصوصا أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة بالراحة المالية.

بل أن البعض يعتقد بأن التجار والأثرياء تاركين تجارتهم وشركاتهم ومحلاتهم ومجابلين الحكومة كي يحرضوها ضد أبناء الطبقة الوسطى والفقراء!!

أعتقد شخصيا بأن هذه الفكرة متوارثة في الكويت منذ زمن ما قبل النفط، وزمن الغوص على اللؤلؤ تحديدا، حيث أن الخارطة الطبقية في الكويت كانت تتشابه مع الزمن الإقطاعي في الدول الأخرى.

الثري الإقطاعي يملك المزرعة، والفقراء يزرعونها لمصلحته، فيربح هو الآلاف والملايين، ولا يعطيهم سوى الفتات الذي لا يسعفهم للصعود طبقيا إلى الأعلى.

وفي الكويت، كان التجار الأثرياء من أصحاب السفن يتشابهون مع هؤلاء الإقطاعيين، فهو يملك السفينة، والبحارة الفقراء يعملون عليها ويتحملون مخاطر البحر وأهواله، وفي النهاية هو يجني الملايين من نقل البضاعة وتجارة اللؤلؤ، وهم يكتفون بالفتات الذي لا يسعفهم للتطور طبقيا، وبذلك يتأكد ’’التاجر‘‘ دائما بأنه سيجد البحارة الذين يتقاتلون للعمل على سفينته.

لكن المشكلة هنا، هي أن أصحاب هذه الفكرة الرومانسية يتجاهلون التغير الدراماتيكي الذي حصل في الكويت مع بداية الخمسينيات، وهو انتقال اقتصاد الدولة من الاعتماد على التجارة والتُجار إلى الاعتماد على تصدير النفط للدول الصناعية.

فهذا التغيير أو الانتقال الدراماتيكي، نقل موازين القوة من كفة التاجر إلى كفة الحاكم، ونقل المواطن الفقير أو المتوسط الحال من العمل لمصلحة التاجر الإقطاعي إلى العمل لمصلحة الدولة في الدوائر الحكومية، وبذلك تحول أغلب التُجار إلى أصحاب ’’وكالات‘‘ تجارية يعتمد نجاحها على الصعود الطبقي للمواطن الفقير سابقاً.

أي أن تجار اليوم، أو أصحاب الوكالات التجارية، سواء كانت سيارات أو عقارات أو إلكترونيات أو مطاعم أو مواد بناء، يعتمد نجاحهم أساسا على الراحة المالية لأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة والذين ينتمي أغلبهم إلى شريحة موظفي القطاع العام!!

فالتاجر أو الثري اليوم، هو أحرص الناس على أن يعيش أبناء الطبقة الوسطى بحالة مالية مريحة، كي يتمكنون من شراء بضاعته، فصاحب وكالة ’’مرسيدس‘‘ يهمه أن ينتقل المواطن إلى الأعلى (ماليا) كي يتمكن من شراء سياراته الفخمة.

وتاجر العقارات يهمه ذلك أيضا، حتى يتمكن المواطن من شراء أو تأجير عقاراته، وهذا ينطبق على أصحاب محلات الملابس والمطاعم وغيرها، فليس من مصلحة أي تاجر (أو ثري) اليوم أن يصبح المواطن - زبونه - فقيراً أو عاجزا ماليا.

فمن سيشتري السيارات الفارهة ويُغيِّر هواتفه الذكية ويلبس أكشخ الماركات لو كان أغلب أبناء الشعب من الفقراء والعاجزين ماليا؟ ألن يتسبب ذلك في إغلاق التجار لـ محلاتهم أو مطاعمهم والتخلص من وكالاتهم!؟

لذلك، أرجو التوقف عن ترديد هذه الفكرة السخيفة، والبحث عن الأسباب العميقة (الحقيقية) لقرارات الحكومة بتقليص الدعم أو التوقف عنه، بعيدا عن نظرية المؤامرة والمظلومية، ولا مانع هنا بأن يتحمل الجميع تبعات هذه القرارات، بمن فيهم حُكام الدولة والقيادات العليا.