نجح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
في ’’بَنشرة‘‘ إطارات الانقلاب الذي قام به مجموعة من قيادات الجيش التركي، وذلك
من خلال مكالمة عبر برنامج ’’فيس تايم‘‘ طالب فيها الشعب التركي بالنزول إلى
الشارع والتصدي لقوات الانقلاب، وذلك ليس من أجله شخصيا، لكن من أجل حماية
الديمقراطية التركية وإرادة الشعب التي أوصلته إلى منصبه.
وبالفعل، استجاب الآلاف من أبناء
الشعب التركي لهذا النداء ووقفوا في وجه الانقلاب الذي فشل قبل أن يولد، وبذلك
انتصر الشعب أولاً، والديمقراطية التركية ثانياً، وأردوغان ثالثاً، فقد أصبح اليوم في موقع
قوة أمام خصومه سواء من أيد الانقلاب أو لم يؤيده.
وبعيدا عن غرابة الانقلاب وغموض
تفاصيله، أجد أن من واجبنا البحث عن الأسباب التي أوصلت تركيا إلى هذه المرحلة،
فما الذي يجعل قيادات وسطى من الجيش التركي خوض هذه المغامرة غير المدروسة،
وارتكاب هذه الحماقة التي ستكلفهم وتكلف مؤيديهم الكثير!؟
أعتقد أن جذور المسألة تعود إلى
العشرين سنة الماضية، حيث كانت تركيا تستميت على الانضمام إلى الاتحاد الأوربي
للحصول على المكاسب الاقتصادية أولا، وتأكيد هويتها الأوربية ثانيا، ولكن هذه المحاولات قوبلت
دائما بالصد والنظرة الأوربية الفوقية، حيث يرفض هؤلاء تنفيع تركيا (الإسلامية) اقتصاديا، كما يستنفعون هم منها عسكريا من خلال حلف ’’الناتو‘‘.
وفي العام 2003، جاء السياسي
الإسلامي ’’رجب طيب أردوغان‘‘ إلى سدة رئاسة الوزراء في تركيا، فحاول كسب ود
الأوربيين أولا، إلا أنهم استمروا في التصدد والتمنع، فما كان منه إلا تغيير مسار
تركيا مئة وثمانين درجة، وذلك بالالتفات إلى الشرق، وإعادة تركيا إلى تاريخها
العثماني المجيد، كقائدة روحانية وسياسية واقتصادية للعالم الإسلامي.
وضع أردوغان وصديقيه ’’عبدالله غُل‘‘
و’’أحمد داود أغلو‘‘ أساسيات الدور الذي ستلعبه تركيا في العهد الجديد، فعلى
المستوى الاقتصادي، ستكون تركيا الجسر الذي ينقل ثروات الشرق إلى الغرب، ومنتجات
الغرب إلى الشرق، فالشرق مفعم بمصادر الطاقة النفطية والغاز، وأوربا بحاجة إلى هذا
الوقود للتدفئة ولتشغيل عجلات مكناتها الصناعية، وفي الوقت نفسه، أوربا غنية بالماء
والمنتجات الصناعية، ودول الشرق الأوسط بحاجة ماسة لها، وبالتالي، فلن يجد الشرق
والغرب أفضل من تركيا للعب دور الوسيط بينهما.
لكن هذا الطموح التركي اصطدم
بالكثير من العوائق التي ستعرقل قيامها بهذ الدور، وأبرز هذه الحواجز كانت
العلاقات السياسية المتوترة التي تربط تركيا بأغلب دول جوارها أولا، والخلافات
السياسية بين دول الجوار بعضها ببعض ثانيا، فما كان من الفريق التركي سوى وضع
مشروع جديد اطلقوا عليه استراتيجية ’’صفر مشاكل‘‘.
ويقوم هذا المشروع على فكرة
عبقرية، وهي أن الدور الاقتصادي الذي ستلعبه تركيا، سيحتاج إلى دور سياسي مساند،
وبالتالي على تركيا أن تقوم بـ’’تصفير‘‘ مشاكلها مع دول الجوار أولا، ثم لعب دور
الوسيط بين دول الجوار لـ’’تصفير‘‘ مشاكلها البينية العالقة ثانيا.
وبالفعل، لعبت تركيا هذا الدور
السياسي والاقتصادي بامتياز، فتمكنت تدريجيا من سحب بساط النفوذ الإقليمي من مصر
والسعودية، وأصبح أردوغان هو الزعيم الأكثر شعبية في وجدان الجماهير الإسلامية
السُنية[1]،
وبذلك ازدهر الاقتصاد التركي وتشعبت ارتباطاتها المالية، وتضاعفت قوتها السياسية
حتى أصبحت الدول الأوربية تتودد إليها بعد أن كانت تتنكر لها سابقاً.
لكن هذا المجد والنجاحات التي
حققها أردوغان في مضمار الاقتصاد والسياسة، أوقعت الرجل في فخ الثقة المبالغة
بالنفس، فسقط أمام أول اختبار حقيقي بين طموحه الإقليمي واستراتيجيته التصفيرية
للمشاكل، فمع بداية العام 2011م، عصفت في الشرق الأوسط عواصف ثورات ’’الربيع
العربي‘‘، وبدأ أعتى الحكام وأكثرهم خبرة وشراسة بالتساقط كقطع الدومينو خلال
أسابيع قليلة.
فسقط ’’زين العابدين‘‘ تونس أولا،
و’’حسني مبارك‘‘ مصر ثانيا، وترنح ’’قذافي‘‘ ليبيا ثالثا، واهتز عرش ’’علي صالح‘‘
اليمن رابعاً، فتوقع أردوغان، كما توقعنا جميعا، أن يلحقهم ’’بشار‘‘ سوريا خامساً،
وهذا ما جعل لعاب الزعيم التركي يسيل أمام هذا الصيد الثمين، ففرصة السيطرة على
سوريا وإيصال نظام حاكم موالي إلى سدة الحكم فيها لن تتكرر في العمر مرتين، خاصة
وأن الانتخابات المصرية أسفرت عن وصول تنظيم الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم فيها.
وبالتالي، قرر أردوغان ’’تسفيط‘‘
استراتيجية ’’صفر مشاكل‘‘ ووضعها على الرف مؤقتا، واستبدلها باستراتيجية ’’Full مشاكل‘‘،
وذلك من خلال دعم المعارضة السورية التي عملت على إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد،
لكن ’’براغي‘‘ كرسي بشار لم تكن لتُفك بسهولة، حيث أنه يتحالف مع كيانات إقليمية
تشتهر بـ’’العرودة‘‘[2]،
فأصبحت الحرب ضد بشار، حربا ضد ’’روسيا‘‘ و’’إيران‘‘ و’’حزب الله‘‘ اللبناني بالتبعية،
ففرملت هذه التركيبة المعقدة الطموحات الأردوغانية الإقليمية!!
طمح أردوغان في البداية إلى استقطاع
منطقة عازلة من الأراضي السورية، وجعلها منطقة حظر طيران، فينطلق الثوار منها
لتحرير بقية المناطق وإسقاط النظام الحاكم في دمشق، لكن الدول الأوربية والولايات
المتحدة الأمريكية لم تتعاون معه في هذا المشروع، خاصة وأن المعارضة التي كان
يدعمها كشفت عن وجهها الإسلامي المتطرف والمتوحش، وبالتالي فقدت ثقة وحماسة الغرب
لها ولنظام الحكم الذي ستطبقه في سوريا بعد إسقاط الأسد.
وبدلاً من أن يستوعب أردوغان الدرس
وينسحب من المشهد بأقل الخسائر، قرر الزعيم التركي أن يُعمق توغله في المستنقع
السوري، ففتح حدوده لعشرات الآلاف من الجهاديين الإسلاميين الذين جاؤوا للقتال ضد
بعضهم البعض والنظام السوري من جميع أنحاء المعمورة، ورغم مباركة الغرب لهذا
الاجتهاد في البداية، إلا أنه استوعب خطورته لاحقاً، وذلك بعد عودة العشرات من
هؤلاء المجاهدين إلى بلدانهم الأوربية وقيامهم بتنفيذ العديد من العمليات
الإرهابية الدامية.
وبالتالي، دخل أردوغان في مواجهة
مفتوحة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فهم يتهمونه بفتح حدوده للإرهابيين
الذين يضربونهم في عقر دارهم، وهو يتهمهم بخيانته في مشروعه لإسقاط بشار الأسد،
خاصة بعد أن فقد اقتصاده المزدهر ازدهاره، وأمنه المستتب استتبابه، ودوره
السياسي الإقليمي بريقه، فما كان منه سوى العودة إلى المتحف العثماني لاستخراج
أطول ’’خوازيقه‘‘ التي ستعيد له احترام الغرب ومهابته.
وفي ليلة ظلماء، وبينما كان حكام
أوربا نائمون في سبات عميق، قرر التركي المكير أن يغرز ’’خازوقه‘‘ في مؤخرة
الاتحاد الأوربي، فتدفق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين على البلاد الأوربية،
ولم يحسن الأوربيون التعامل مع هذه الضربة الخازوقية، فاضطرت المستشارة الألمانية
لإجبار دول الاتحاد على استقبال مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، وتحمل أعبائهم
الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وهذا ما تسبب في تلقي الاتحاد خازوقا آخر من
الشعب البريطاني، الذي قرر إخراج بلاده من الاتحاد الذي انطبق عليه القول الأثير
’’إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه‘‘ (أو خوازيقه في هذه الحالة)!!
وبهذا اضطر الأوربيون للعودة
صاغرين إلى أردوغان ليسحب ’’خوازيقه‘‘، ففرض عليهم شروطا أعطت للأتراك بالخوازيق
ما لم يحصلوا عليه بالعلاقات الودية، وهو فتح البلاد الأوربية للمواطنين الأتراك للسياحة
والتجارة، عسى أن يساهم هذا الانفتاح في إعادة التوازن إلى الاقتصاد التركي، إلا
أن هذا الاتفاق لم يتم لعدم جدية الطرفين، وبالتالي تدمرت علاقته بالشريك الأوربي.
على الجانب الآخر، تزامنت هذه
الأزمة مع أزمة أخرى واجه فيها أردوغان شريكه الأمريكي، فالولايات المتحدة
الأمريكية لم تكتف بالتخاذل في مساعدته في مشروعه لإسقاط الرئيس السوري بشار
الأسد، بل أنها تبنت فصائل القوات الكردية التي تقاتل الجهاديين الإسلاميين على
الحدود التركية السورية، وهؤلاء الأكراد هم العدو اللدود لتركيا التي تتهمهم
بالإرهاب والخيانة، فساهمت هذه المعادلة في تدمير علاقته بالولايات المتحدة
الأمريكية أيضا.
ومع احتدام المعارك في سوريا، قرر
’’أبضاي‘‘ روسيا التدخل فعليا في المعركة لإنقاذ صديقه في دمشق، فبدأت الطائرات
الروسية تدك حصون المجاميع الجهادية المدعومة من أردوغان وشركاؤه، فحاول أردوغان
إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فأصدر أوامره بإسقاط إحدى الطائرات الروسية التي اقتربت من
حدوده الجوية، فسقطت ’’السوخوي‘‘ الروسية، وسقط حماس أوربا وأمريكا بدعم صديقهم
التركي معها، ووجد أردوغان نفسه بلا ’’ظهر‘‘ أمام غضب الدب الروسي.
وبذلك، تحولت استراتيجية ’’صفر
مشاكل‘‘ إلى مشكلة اللاجئين مع أروبا، ومشكلة الأكراد مع أمريكا، ومشكلة الطائرة
مع روسيا، ومشكلة دعم المعارضة مع سوريا، وكأن كل هذه المشاكل لم تكن كافية، ففتح
أردوغان جبهات أخرى مع جارته العراق التي قصفت قواته الأكراد فيها، ومع مصر التي
لم يعترف بالحكم الجديد فيها، فأصبح الجميع ينظر إلى أردوغان على أنه ’’مشكلجي‘‘
المنطقة، وبدأ الجميع بالابتعاد عنه ليعيش في عزلة خانقة.
ومما زاد طين أردوغان بِلة، أن كل
هذه المشاكل أتت على حساب الجيش التركي، الذي أصبح يرى نفسه قاب قوسين أو أدنى من
التورط في عدة جبهات لا ناقة له فيها ولا جمل، حيث أوقعه ’’استهتار‘‘ أردوغان
بمواجهات ساخنة مع السوريين والعراقيين والروس والأكراد والإرهابيين، بعد أن كان في
مواجهة واحدة مع الأكراد في حقبة ما قبل 2011م!!
وتزامن كل ذلك مع انفجار فقاعات
الأزمات الداخلية، فمن ابتعاد لأهم المستشارين والحلفاء، إلى عمليات إرهابية شبه
’’دورية‘‘، إلى اتهامات بقضايا تنفيع وفساد، إلى ممارسات دكتاتورية وتقييد
للحريات، فأصبح المشهد الجميل لتركيا ما قبل 2011م قاتماً، وأصبح وجود أردوغان غصة
في بلعوم استقرار تركيا.
وأمام هذا المشهد السوداوي، تفاجأ
الجميع بتصريح ’’أبريلي‘‘ لقيادة الجيش التركي ينفي فيه وجود أي نية للانقلاب على
أردوغان واقتلاعه من سدة السلطة، وتبع هذا التصريح بعدم وجود نية للانقلاب
’’انقلابا‘‘ حقيقيا في توجهات أردوغان السياسية، فمن دون أي مقدمات، ومن دون سابق
إنذار، قررت الحكومة التركية إعادة الدفء إلى علاقاتها الباردة بإسرائيل، وتقديم
الاعتذار عن خطأ إسقاط الطائرة إلى الدب الروسي، والتصريح علنا بعدم ممانعتها
ببقاء الرئيس السوري ’’بشار الأسد‘‘، والرغبة الصادقة بعلاقات طيبة مع الحكومة
السورية!!
ومن هنا تبقى الأسئلة مفتوحة، هل لانقلاب
’’يوليو‘‘ الفاشل علاقة بتصريحات الجيش ’’الأبريلية‘‘!؟ وهل لتصريحات الجيش في أبريل
علاقة بالانقلاب السلمي في توجهات أردوغان السياسية!؟ كل هذه الأسئلة ستجد لها
إجابات في الأيام القادمة، لكن ما نعرفه اليوم، هو أن الشعب التركي وقف مع قيادته
الشرعية، وأن المعارضة التركية لم تستغل الفرصة للغدر بأردوغان في اللحظات الحرجة،
وأن أردوغان، سيبقى رقما صعبا في المعادلة الإقليمية، سواء عاد إلى ’’تصفير‘‘ المشاكل أو تفجيرها!!