
إهدأ , ثم إغمض عينيك قليلا , تنفس ثلاثة مرات , ثم افتح عينيك و ابدأ بالقراءة , تمعن بكل حرف و كلمة من هذا الدعاء , فهو والله خفيف في اللسان و ثقيل على الميزان
.
.
اَللّهُمَّ اجْعَلْني اَخْشاكَ كَأُنّي أَراكَ
وَأَسْعِدْني بِتَقواكَ
وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ
وَخِرْ لي في قَضآئِكَ
وَبارِكْ لي في قَدَرِكَ
حَتّى لا أُحِبَّ تَعْجيلَ ما أَخَّرْتَ
وَلا تَأخيرَ ما عَجَّلْتَ
اَللّهُمَّ اجْعَلْ غِنايَ في نَفْسي
وَالْيَقينَ في قَلْبي
وَالإخْلاصَ في عَمَلي
وَالنُّورَ في بَصَري
وَالْبَصيرَةَ في ديني
.
ثم يخاطب الرب و يقول
.
يا مَنْ لا يَعْلَمُ كَيْف هُوَ إِلاّ هُوَ
يا مَنْ لا يَعْلَمُ ماهُوَ إِلاّ هُوَ
يا مَنْ لا يَعْلَمُهُ إِلاّ هُوَ
يا مَنْ كَبَسَ الأرْضَ عَلَى الْمآءِ
وَسَدَّ الْهَوآءَ بِالسَّمآءِ
يا مَنْ لَهُ أَكْرَمُ الأسْمآءِ
.
و يستمر في المناجاة فيقول
.
يا مَنْ قَلَّ لَهُ شُكْري فَلَمْ يَحْرِمْني
وَعَظُمَتْ خَطيَئَتي فَلَمْ يَفْضَحْني
وَرَآني عَلَى الْمَعاصي فَلَمْ يَشْهَرْني
يا مَنْ حَفِظَني في صِغَري
يا مَنْ رَزَقَني في كِبَري
يا مَنْ أياديهِ عِنْدي لا تُحْصى وَنِعَمُهُ لا تُجازى
يا مَنْ عارَضَني بِالْخَيْرِ والإحْسانِ
وَعارَضْتُهُ بِالاْساءة وَالْعِصْيانِ
يا مَنْ هَداني بالإِيمانِ مِنْ قَبْلِ اَنْ أَعْرِفَ شُكْرَ الإمْتِنانِ
يا مَنْ دَعَوْتُهُ مَريضاً فَشَفاني
وَعُرْياناً فَكَساني
وَجائِعاً فَأَشْبَعَني
وَعَطْشاناً فَأَرْواني
وَذليلاً فَـ أعَزَّني
وَجاهِلاً فَعَرَّفَني
وَ وَحيداً فَكَثَّرَني
وَغائِباً فـ رَدَّني
وَمُقِلاًّ فَأغْناني
وَمُنْتَصِراً فَـ نَصَرَني
وَغَنِيّاً فَلَمْ يَسْلُبْني
وَأمْسَكْتُ عَنْ جَميعِ ذلِكَ فَـ ابْتَدَاَني
فَلَكَ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ
.
ثم يتساءل و يقول
.
فَبِأَيِّ شيءٍ اَسْتَقْبِلُكَ يا مَوْلايَ
أَبِسَمْعي ؟ أَمْ بِبَصَري ؟ أْم بِلِساني ؟ أَمْ بِيَدي ؟ أَمْ بِرِجْلي ؟
أَلَيْسَ كُلُّها نِعَمَكَ عِندي ؟ وَبِكُلِّها عَصَيْتُكَ يا مَوْلايَ ؟
فَلَكَ الْحُجَّةُ وَالسَّبيلُ عَليَّ
يا مَنْ سَتَرَني مِنَ الاْباءِ وَالأمَّهاتِ أَنْ يَزجُرُوني
وَمِنَ الْعَشائِرِ وَالإخْوانِ أَنْ يُعَيِّرُوني
وَمِنَ السَّلاطينِ اَنْ يُعاقِبُوني
وَلَوِ اطَّلَعُوا يا مَوْلايَ عَلى مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنّي إذاً ما أَنْظَرُوني
وَلـ رَفَضُوني وَ قَطَعُوني
فَها أَنَا ذا يا اِلهي بَيْنَ يَدَيْكَ يا سَيِّدي
خاضِعٌ ذَليلٌ
حَصيرٌ حَقيرٌ
لا ذُو بَرآئة فَـ أَعْتَذِرَ
وَلا ذُو قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرُ
وَلا حُجَّةٍ فَأَحْتَجّ بِها
.
تُنسب هذه الكلمات للإمام الحسين بن علي بن أبي طالب , قالها في يوم عرفة سنة 60 للهجرة , قبل مقتله بأسابيع قليلة , و من يتمعن في ظاهر الكلام و يتعمق في بواطنه يتيقن بأنه لا يصدر إلا من شخص ليس كبقية البشر , شخص يشّع نور المعرفة و العرفان من فكره و فمه , ليضيء به عقول الآخرين وأفئدتهم , بل أن كلمات هذا الدعاء تضع بكل مترفّع , و ترفع كل يائس ساقط
.
و للأسف الشديد فإن التاريخ لا يقف على الحياد أمام سيرة العظماء , فيُصرّ على إظهار بعض خصالهم على حساب الخصال الأخرى , و هذا ما جعل الغالبية تختزل حياة الإمام الحسين في يوم الطف عند استشهاده مما جاء على حساب اضاءات أخرى في حياته النورانية , فالحسين قبل أن يكون سيد الشهداء كان سيد العُباد , و قبل أن يكون سيد العُباد هو سيد الزُهّاد , و لم يصبح زاهدا الا لأنه سيد العلماء , و سيادة العلماء رافقت سيادته على المتصوفين و الفلاسفة , و الدعاء السابق خير دليل على ذلك
.
ففي هذا الدعاء يذوب الحسين في العرفان بلا تكلف أو ابتذال , تأتي كلماته كـ قطرات المطر المتوجهة من الأرض الى السماء مناجية رب الأكوان , مستسلمة لمشيئته , راضية بأقداره , معترفة بربوبيته و مُعظِمة لسلطاته و سلطانه , و هذا أعز ما يحتاج اليه من أشغلت الدنيا فكره , و أغمشت ملذات الحياة ببصيرته , فالحسين هنا ينبه الغافل و يجردنا من كل الهالات و الأغطية التي نختبيء وراءها , هنا الحسين يُنقي أنفسنا و يعيد ترتيبنا من الداخل و الخارج لنتوجه بكل ما فينا من طاقات مبعثرة الى وجهة واحدة , و هي الإعتراف بالله و التسليم اليه
.
و برغم التركيز الكثيف الذي يوليه المسلمين شيعة و سنة لشخصية الإمام الحسين و حادثة الطف الا أنني أجدهم مقصرين في اكتشاف الأسرار الكامنة لهذه الشخصية , فالفريق الأول يبالغ في إحياء ذكرى الإمام بممارسة الطقوس المبتذلة , و هي البعيدة كل البُعد عن عرفان صاحب المناسبة , أما الفريق الثاني فـ يتعامل مع الحسين كما لو كان حرف من بين الحروف لا يتميز عن الآخرين بشيء , فجُل اهتمامهم به يُختزل في التساؤل شمعنه فُلان ؟ فـ فُلان أفضل من علّان , و علّان أسوأ من علنتان
.
و بهذا أعتقد أننا حصرنا هذه الشخصية في نطاق خلافاتنا المذهبية السخيفة , و ضيعنا من بين أيدينا فرصة تحويل الحسين الى شخصية عالمية خالدة , تستفيد منها كافة الشعوب و الأمم , فالمفاهيم التي رسخها الحسين لا تقل عن قيمة ما أنجزه يسوع الناصري و سقراط الإغريق و كونفوشيوس الصين , فالإمام الحسين هو خُلاصة ما جاء قبله , و نقطة انطلاقة جديدة لما جاء بعده
.
السلام على الحسين
و على علي بن الحسين
و على أصحاب الحسين
و على أخيه أبو الفضل العباس
.
عظم الله أجركم