Sunday, December 27, 2015

ماذا سيأكل الحوت إذا نشف البحر!؟



كعادتها دائما.. طالعتنا صحيفة ’’الراي‘‘ بخبر على صفحتها الأولى مفاده أن الحكومة تنوي تقليص ’’الدعوم‘‘.

وكالعادة أيضا.. اشتعل فضاء تويتر بمئات التغريدات التي ترفض هذا التوجه الحكومي عن بكرة أبيه، وبدأ كل مغرد يفضفض عن رأيه بالموضوع حسب درجة ملله من دوامه، فهذا يهدد الأصنام الحالية، وذاك يترحم على أصنام الماضي، وهذا يتمسكن، والآخر يُنظِّر.

وكل ذلك لا يهمني، فأنا لست ضد الفضفضة في الفضاء التويتري، خصوصا وأن أغلب هذه التغريدات ستتبخر مع موعد انتهاء ’’الدوام‘‘ وتوجه الموظفين لبيوتهم سالمين غانمين.

لكن ما لفت نظري من منظور ’’تأريخي‘‘، هو تلك التغريدات التي تُروج لفكرة أن ’’التُجار‘‘ أو الأثرياء هم من يقف وراء توجهات الحكومة لتقليص الدعم عن ’’الكادحين‘‘ والفقراء.

وهذه الفكرة أصبحت للأسف شبه مُسَلَّمَة فكرية بين الكويتيين، خصوصا بعد تدشين النائب السابق مسلم البراك معركته ضد خصومه تحت عنوان ’’الحيتان‘‘.

ما أثارني هنا هو سخافة هذه الفكرة التي يروجها أو يتعاطاها الجميع كـ مُسَلَّمة لا تقبل الشك أو التشكيك، وكأن التاجر أو الثري (اصطلاحا) هو شخص ينزعج من تمتع الآخرين وخصوصا أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة بالراحة المالية.

بل أن البعض يعتقد بأن التجار والأثرياء تاركين تجارتهم وشركاتهم ومحلاتهم ومجابلين الحكومة كي يحرضوها ضد أبناء الطبقة الوسطى والفقراء!!

أعتقد شخصيا بأن هذه الفكرة متوارثة في الكويت منذ زمن ما قبل النفط، وزمن الغوص على اللؤلؤ تحديدا، حيث أن الخارطة الطبقية في الكويت كانت تتشابه مع الزمن الإقطاعي في الدول الأخرى.

الثري الإقطاعي يملك المزرعة، والفقراء يزرعونها لمصلحته، فيربح هو الآلاف والملايين، ولا يعطيهم سوى الفتات الذي لا يسعفهم للصعود طبقيا إلى الأعلى.

وفي الكويت، كان التجار الأثرياء من أصحاب السفن يتشابهون مع هؤلاء الإقطاعيين، فهو يملك السفينة، والبحارة الفقراء يعملون عليها ويتحملون مخاطر البحر وأهواله، وفي النهاية هو يجني الملايين من نقل البضاعة وتجارة اللؤلؤ، وهم يكتفون بالفتات الذي لا يسعفهم للتطور طبقيا، وبذلك يتأكد ’’التاجر‘‘ دائما بأنه سيجد البحارة الذين يتقاتلون للعمل على سفينته.

لكن المشكلة هنا، هي أن أصحاب هذه الفكرة الرومانسية يتجاهلون التغير الدراماتيكي الذي حصل في الكويت مع بداية الخمسينيات، وهو انتقال اقتصاد الدولة من الاعتماد على التجارة والتُجار إلى الاعتماد على تصدير النفط للدول الصناعية.

فهذا التغيير أو الانتقال الدراماتيكي، نقل موازين القوة من كفة التاجر إلى كفة الحاكم، ونقل المواطن الفقير أو المتوسط الحال من العمل لمصلحة التاجر الإقطاعي إلى العمل لمصلحة الدولة في الدوائر الحكومية، وبذلك تحول أغلب التُجار إلى أصحاب ’’وكالات‘‘ تجارية يعتمد نجاحها على الصعود الطبقي للمواطن الفقير سابقاً.

أي أن تجار اليوم، أو أصحاب الوكالات التجارية، سواء كانت سيارات أو عقارات أو إلكترونيات أو مطاعم أو مواد بناء، يعتمد نجاحهم أساسا على الراحة المالية لأبناء الطبقات الوسطى والفقيرة والذين ينتمي أغلبهم إلى شريحة موظفي القطاع العام!!

فالتاجر أو الثري اليوم، هو أحرص الناس على أن يعيش أبناء الطبقة الوسطى بحالة مالية مريحة، كي يتمكنون من شراء بضاعته، فصاحب وكالة ’’مرسيدس‘‘ يهمه أن ينتقل المواطن إلى الأعلى (ماليا) كي يتمكن من شراء سياراته الفخمة.

وتاجر العقارات يهمه ذلك أيضا، حتى يتمكن المواطن من شراء أو تأجير عقاراته، وهذا ينطبق على أصحاب محلات الملابس والمطاعم وغيرها، فليس من مصلحة أي تاجر (أو ثري) اليوم أن يصبح المواطن - زبونه - فقيراً أو عاجزا ماليا.

فمن سيشتري السيارات الفارهة ويُغيِّر هواتفه الذكية ويلبس أكشخ الماركات لو كان أغلب أبناء الشعب من الفقراء والعاجزين ماليا؟ ألن يتسبب ذلك في إغلاق التجار لـ محلاتهم أو مطاعمهم والتخلص من وكالاتهم!؟

لذلك، أرجو التوقف عن ترديد هذه الفكرة السخيفة، والبحث عن الأسباب العميقة (الحقيقية) لقرارات الحكومة بتقليص الدعم أو التوقف عنه، بعيدا عن نظرية المؤامرة والمظلومية، ولا مانع هنا بأن يتحمل الجميع تبعات هذه القرارات، بمن فيهم حُكام الدولة والقيادات العليا.    


Tuesday, June 30, 2015

الدولة تزرع.. و"داعش" تحصد !!





تتميز الكائنات الحية عن الجمادات بالسلوكيات "الغريزية"، وهي السلوكيات التي يقوم بها الكائن الحي شعوريا أو لا شعوريا بدافع داخلي شبه إجباري، ويكون الهدف الأساسي منها الحفاظ على "النوع"[1].

ويأتي الحفاظ على النوع من خلال استراتيجيات الابتعاد عن الخطر أو "الخوف"، والسعي نحو تعزيز الوجود أو "الطمع"، وهو ما نسميه باختصار "غريزة البقاء" (Survival Instinct)، التي أطَّرها العالم الإنجليزي الشهير تشارلز داروين في نظرية "البقاء للأفضل" (Survival for the Fittest).

ولو أمعنا النظر في ما يجري من حولنا، سنجد أن أغلب تصرفاتنا وتصرفات الكائنات الحية تدور في هذا الفلك، فعندما يتوجه نبات "عبّاد الشمس" نحو الشمس فهو يعزز من وجوده، وعندما تُغير "الحرباء" لونها فهي تبتعد عن الخطر، وعندما تُخزِّن بعض الحيوانات طعامها لأشهر طويلة فهي تعزز من وجودها، وعندما تُطور بعض الأسماك والثعابين والضفادع والعقارب سُمومها فهي تقاوم الخطر.

هذا بالنسبة للكائنات الدُنيا، وبالانتقال إلى الكائنات العُليا، نجد أنها أكثر قدرة على تكييف أو "تطويع" بيئتها المحيطة للابتعاد عن الخطر، والحفاظ على النوع، فنجد أن الإنسان تمكن من بناء البيوت لاتقاء أخطار الطبيعة، واستخدام الأسلحة والآلات للصيد والحماية، واستخلاص الأمصال والأدوية للعلاج ومقاومة الأمراض، وتتطور هذه الآليات "البقائية" إلى تكوين المجتمعات وتأسيس الدول وتنظيم الحياة الأسرية ووضع القوانين، ولا أبالغ إن قلت بأن حتى المعتقدات الدينية والفلسفية والعلمية جاءت من أجل هذا الهدف الأساسي، وهو الحفاظ على النوع والابتعاد عن الخطر.

وبذلك يكون التنافس بين الكائنات الحية في مجمله هو تنافس على "البقاء"، فالكائنات "الذكية" تتمكن من "البقاء"، والكائنات الأقل ذكاء أو "الغبية" يكون مصيرها الانقراض والفناء، وفرضت قوانين الصراع على هذا الكوكب بقاء الكائنات الذكية على حساب الكائنات الأقل ذكاء، بل أن العناصر الذكية داخل "النوع" أو "السلالة" نفسها تعزز من بقائها على حساب العناصر الغبية أو الأقل ذكاء.



اضطررت لسرد هذه المقدمة المُملة، كي أتمكن من تفسير المشاهد التي خزَّنها عقلي خلال الأيام الماضية، فما الذي يدفع رجل ثمانيني مهموم[2] إلى ساحة الموت بعد دقائق من وقوع الانفجار سوى الدافع الغريزي في "البقاء" والحفاظ على النوع (أو الدولة في هذه الحالة) !؟

وما الذي يجعل مجتمع مثخن بالتشرذم وكل أدبيات التفكك إلى الارتداد فجأة لـ يُسطِّر دروسا في اللُحمة الوطنية والتماسك الصلب سوى الدافع الغريزي للابتعاد عن "الخطر" !؟

وما الذي دفع أساطين خطاب "الكراهية" والتكفير التحريضي إلى التبرؤ من منتجاتهم الفكرية[3] والتحول إلى حمَامات سلام وزنابق تنشر عطور الأخوة واحترام الآخر سوى غريزة "البقاء" والحفاظ على النوع !؟

مشاهد وعبارات وتنازلات وشعارات وزُهديات ومثاليات لم تكن لتظهر لولا هول الفاجعة، وحجم الكارثة التي راح ضحيتها ما مجموعه 250 شخصا بين قتيل (شهيد) وجريح، مصيبة وضعتنا وجها لوجه أمام "داعش" و"التكفير" و"القتل على الهوية" الذي كنا نراه ونسمع به في الدول الأخرى المحيطة والبعيدة.

وبالتالي ظهرت سلوكياتنا الغريزية في الحاجة إلى "البقاء" على السطح، وجعلتنا نتصرف بأقصى درجات التسامح والود مع شركاؤنا في الوطن، فلا أحد منا يريد أن يرى نفسه بلا "وطن"، أو يعيش في دولة "فاشلة"[4]، خصوصاً وأن نسبة كبيرة منا عاصرت الاحتلال العراقي وتعرف جيداً معنى الدولة "الفاشلة" و"التشرد" في المنافي، وهي لا تريد العودة إلى تلك الأوضاع البائسة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سنتصرف كـ كائنات بسيطة تستمر آلياتها في الابتعاد عن "الخطر" لفترة قصيرة، كما تفعل الحرباء التي تُغير لونها عند اقتراب "الخطر"، ثم تعود إلى لونها الطبيعي بعد تيقنها من زواله !؟

أم أننا سنتصرف كـ كائنات ذكية، تذوقت مرارة الاستهتار بالخطر، وتعلمت من أخطاء الماضي، وتستغل "الجُرعة الغريزية" لتأسيس آليات مستدامة للابتعاد عن "الخطر"، والحفاظ على "البقاء"

يُفترض أن نكون من هذه الفئة، وألا نظُن بأن تكثيف حملات "أنا سُني وأحب الشيعة... وأنا شيعي وربعي سُنة" سيكون كافيا لمواجهة الخطر وضمان البقاء في زمن "داعش" والإرهاب العابر للحدود، خصوصا وأن الأسباب "الجذرية" المحفزة على الإرهاب لا زالت موجودة ومترسخة ومتغلغلة في النفوس وفي مؤسسات الدولة العميقة.







فلا زالت مناهج وزارة التعليم التابعة للدولة، ووسائل الإعلام التابعة للدولة، ودُور العبادة التابعة للدولة، ووزارة الأوقاف التابعة للدولة، والأنشطة الثقافية التابعة للدولة، والقوانين التشريعية التي تطبقها أجهزة الدولة، تفرض علينا نسخة واحدة من المعتقدات الدينية المتشددة، وتُغذي عقولنا بالمعتقدات الاصطفائية التجهيلية للنفس، والتحقيرية للآخر.

نعم، نحن نعيش اليوم في عصر حرية التعبير والفضائيات والإنترنت، ومصادر تناقل المعلومات مفتوحة، لكن انجذاب الشباب إلى شخصية تويترية متطرفة، أو حضورهم لدروس رجل دين متشدد في أحد السراديب شيء، ورعاية الدولة بكافة مؤسساتها الرسمية والأهلية لخطاب الكراهية شيء آخر.






فأنا كـ أب، قادر على مراقبة أبنائي ومنعهم من مصاحبة فلان وعدم الذهاب إلى المنتدى الفلاني، لكن ليس بمقدوري منعهم من الذهاب إلى المدرسة وحل الامتحانات والخضوع لمناهج وزارة التعليم المتطرفة !!

فـ الشباب الذين تُجندهم "داعش" لم يأتوا من المريخ أو القمر، فـ هم شبابنا، درسوا في مدارسنا، وصلُّوا في مساجدنا، وتتلمذوا على فتاوى فقهاؤنا، وشاهدوا برامج تلفزيوناتنا، وأنصتوا إلى إذاعاتنا، نحن من صنعهم، وهيّأهم، وجهّزهم، وشجّعهم، وأغراهم، ودفعهم، وبرَّر لهم، وسهّل لهم، وسلَّمهم على طبق من ذهب، إلى "داعش" وغير "داعش" لاستغلالهم والاستفادة من حماقتهم.

فـ "داعش" هنا.. ليست سوى المُتَنَزِه الذي يقطف "الثمرة"، بعد أن قامت الدولة بزراعة البذرة.. وسقاية الشجرة.. ورعاية الزهرة، ولن تتوقف "داعش" (وغيرها) عن حصاد المتطرفين من شبابنا ما لم تتوقف حكوماتنا عن زراعة التطرف في عقول هؤلاء الشباب.

فهل ستستفيد حكوماتنا من الدرس !؟

وهل سنتصرف كـ كائنات "ذكية" تفرض عليها غريزة "البقاء" قطع جذور شجرة التطرف بدلا من الاكتفاء بتقليم أوراقها !؟

أم أننا سنستمر بالمكابرة، وتغليب المجاملات، والاستغباء على أنفسنا، حتى يتحول شبابنا إلى مجرمون، ومساجدنا إلى رُكام، وفضائياتنا إلى ساحات للحروب، ومدارسنا إلى مصانع للعفن الفكري !؟

هذا ما سيحدد مدى جديتنا في علاج المشكلة.. ومدى استحقاقنا للعيش بسلام !!



[1] النوع هنا تعني نوع الكائن الحي أو الفصيلة أو السلالة سواء كانت إنسانية أو حيوانية أو بكتيرية أو نباتية... إلخ.
[2] مع الحفاظ على المكانة والمقامات والألقاب، فحضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح حيَّر العالم أجمع بما قام به من تصرف بطولي لا يقوم به أشجع الشجعان في ميدان المعركة، ولولا وجوده في ذلك المكان، وفي ذلك التوقيت، وفي تلك الهيئة، لسارت الأمور في اتجاه آخر.   
[3] قد تكون هذه المقالة الوحيدة التي أكتبها وأتعمد فيها عدم وضع صور "تدليلية" على ما أكتبه، وذلك رغبة مني في إعطاء الجميع فرصة لمراجعة النفس وحرصا مني على عدم خلق مناخ لنقاشات مشحونة قد تساهم في تشويه الصورة اليوتوبية الجميلة التي نتلذذ بها الآن.
[4] مصطلح الدولة الفاشلة هو مصطلح سياسي يعني الدولة التي لا تسيطر على كامل أراضيها، وهو الوضع الحاصل في اليمن والعراق وسوريا وليبيا وربما لبنان أيضا.

Sunday, May 31, 2015

المأزق السعودي


جريدة الوطن السعودية

غالبية أهل التاريخ، يتفقون على أن تأسيس الدولة السعودية الأولى تم باللقاء التاريخي بين رجل الدين المتشدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ورجل السياسة محمد بن سعود (حاكم الدرعية) سنة 1745م تقريبا.

ففي هذا اللقاء عرض بن عبدالوهاب على بن سعود نصرته في "الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وبأن كل بدعة ضلالة، وأخبره أيضاً بما عليه أهل نجد من البدع[1] والجور والاختلاف والظلم"[2].

وقد رحب بن سعود بهذه المطالب، وأعلن الاثنان تحالفهما تحت شعار "الدم بالدم والهدم بالهدم"[3].

وهكذا بدأ الاثنان رحلتهما في دعوة القُرى والمدن والبلدان المجاورة إلى "التوحيد" وترك الشرك والكفر والبدع[4] حسب منهج "التوحيد" الذي وضعه الشيخ محمد بن عبدالوهاب ولذلك سُمي بالمنهج "الوهابي"[5].

وهو يقوم بشكل أساسي على التوحيد الخالص لله، وعدم إشراك الأنبياء والأولياء والقبور والنذور والأحجار والأشجار في القدرات الإلهية، وهي أي قدرة ذاتية أو وسيطية على جلب الخير ودفع الشر، أو الإضرار والإفادة[6].

وبذلك أصبح غالبية المسلمين المتساهلين في هذه المسألة تحت مرمى نيران الحلف الوهابي/السعودي، وكان مصير هذه البلدات والأقوام إما الدخول في الطاعة وهدم ما لديهم من قبور ونذور والخضوع لابن سعود، أو الحكم عليهم بالكفر والشرك والردة، وبالتالي وجوب إقامة الحد عليهم وهو غالباً ما يكون الغزو والقتل والسبي[7].

وقد استمر هذا التحالف بين أبناء بن عبدالوهاب وأبناء بن سعود إلى يومنا هذا، وصمد أمام ضربات موجعة كانهيار الدولة وإعادة تأسيسها للمرة الثانية (1824م) والثالثة (1902م)، ولم يتغير الأسلوب "التبشيري الوحشي" للدعوة طوال السنوات السابقة للثلاثينيات من القرن الماضي، وعن أعمالهم وصِفاتهم كتب الصحفي الفرنسي إدوار دريو:

"كانوا غلاظ القلوب يأنفون زينة الأماكن المقدسة، فابن سعود انتزع السجادة النفيسة المصنوعة من الذهب والحرير التي وجدها عند قبر إبراهيم، وقوّضوا قبب القبور منها قبة محمد، وانتزعت المآذن، لكن الكعبة حفظت وأبقي على الحجر الأسود"[8].

وقد امتدت غاراتهم (التي يطلقون عليها صفة الفتوحات) إلى "النجف" و"كربلاء" و"الحجاز"، وقد كتب "دريو" عما فعلوه في "كربلاء" في الشهر الرابع من العام 1802م:

"ما لبث الوهابيون أن دخلوا حرم القبر المقدس ودمروا محتوياته وقدموها قربانا وتعبدا لشعائرهم الجديدة اعتقادا منهم بأن ما قاموا به هو أمر محبب لدى الله مما زادهم ميلا إلى إراقة الدماء، فقضوا على الرجال والنساء والأطفال إلا من استطاع الهرب والنجاة من غضبهم الجامح.

وما إن انتهت المذبحة وفرغت من أي ضحايا جدد حتى بدأ البعض منهم يفكر بالاستيلاء على الكنوز الطائلة التي جمعت من تبرعات المؤمنين الذين أتوا من جميع أنحاء آسيا وغيرها، كما ذهب بعضهم الآخر الظن إلى أن قبة المسجد قد غُلفت بأوراق الذهب، فأخذوا بإزالتها"[9] [10].

وبعد سيطرتهم على "الحجاز"، قام الوهابيون بمنع الحج لعدة سنوات، بسبب ما تمارسه قوافل الحجاج من بدع حسب رأيهم[11]، وقد تعرضت الكويت لعدة غارات وهابية، كان آخرها وأشهرها ما يُعرف باسم "معركة الجهراء" في العام 1920م[12]، والتي شنها الوهابيون على الكويت كي يعود أهلها إلى "الإسلام"، ويتركوا المنكرات والدخان، ويُكفّروا الأتراك، ويُخرجوا القنصل البريطاني من الكويت، ويهدموا المستشفى الأمريكاني، ويطردوا أطبائه، ويُرحّلوا الشيعة من الكويت !![13]
        
ولم يتوقف وهج الغارات الوهابية سوى في العام 1926م، وذلك بعد استقرار أركان حكم "نجد" و"الحجاز" في يد السلطان عبدالعزيز بن سعود، وتوحيده لجزيرة العرب، وإعلان قيام المملكة العربية السعودية، وانشغاله في تأسيس الدولة والبناء، بدلا من الغارات والغزوات، وهنا كان أول انشقاق فكري "داخلي" في الحركة الوهابية، حيث قرر الحاكم الاستقرار و"تعطيل" فرض الجهاد، بينما رغب بقية القادة في الاستمرار بالغزوات والجهاد، فمارس هؤلاء "المزايدة" على ابن سعود وتمردوا عليه، فقضى عليهم في معركة "السبلة" في العام 1929م.

وبعد ذلك استقر الحكم السياسي في المملكة، لكن انشقاق الحركة الوهابية "الداخلي" لم يستقر، فقد نجح حكام آل سعود في ضمان تحالف تلاميذ الشيخ محمد عبدالوهاب معهم، لكنهم فشلوا في نزع فتيل "الجهادية التبشيرية" من الجينات الوهابية، فبين فترة وأخرى، يخرج إلى السطح من يُزايد عليهم، ويطرح نفسه لـ"الأُمة" كـ بديل أكثر تمسكا بالمنهج الوهابي من آل سعود وشيوخ بلاطهم.

وقد شهدنا ذلك في العام 1979م مع حركة "جهيمان العتيبي" واحتلاله للحرم المكي، وشهدناها مرة أخرى مع حركة "أسامة بن لادن" في العام 2001م، وشهدناها مع حركة "أبو مصعب الزرقاوي"، و"أبو محمد الجولاني"، و"أبو بكر البغدادي"، وأخيرا مع "خالد المولد" الذي أعلن قبل أيام عن أن الحكومة السعودية والشعب السعودي "كفرة"، وأنه المسلم الوحيد بالعالم.



كل هؤلاء ينتمون إلى المنهج الوهابي، ويستخدمون فتاوى الشيخ محمد عبدالوهاب وابن تيمية وابن القيم في التبرير لأعمالهم الجهادية أو سمِّها الإرهابية إن شئت، يقتلون الأبرياء، ويهدمون الأضرحة، ويُهجِّرون الآمنين من بيوتهم.





يفعلون ذلك دون تردد أو تململ، لأن تاريخ الوهابية المرتبط بتاريخ الدولة السعودية مارس كل هذه الأعمال سابقاً، ولا عُذر للحكومة السعودية وأسرتها الحاكمة في رفض هذه الممارسات وإنكارها عليهم اليوم، فكيف يرفضونها وهذه الفتاوى لعبت الدور المحوري في تأسيس دولتهم !؟

وهم لا زالوا يتمسكون بمرجعياتهم، ويفرضونها في المناهج الدراسية على طلابهم، وينشرونها حول العالم في وسائل إعلامهم، ويُصدِّرونها إلى فقراء العالم مع مساعداتهم، كيف يرفضونها، وهي جزء أساسي في ممارساتهم؟

فكيف سـ يحاجج "الوهابي" الموالي للحكومة السعودية "الوهابي" الداعشي أو القاعدي وهم يستخدمون نفس الفتاوى ونفس الرموز ونفس الشِعارات؟

كيف سيعترض "الوهابي" السعودي على قيام "داعش" بهدم الأضرحة وتهجير مخالفيهم في المعتقد وتطبيق العقوبات الجسدية كقطع الرؤوس وجلد الظهور، والدولة السعودية هدمت الأضرحة سابقاً، ولا زالت تطبق العقوبات الجسدية إلى يومنا هذا، وعلى أتفه الأسباب كما حصل مع المدون رائف بدوي !!




الخلاف بين "الوهابي" الموالي للحكومة السعودية و"الوهابي" الموالي لداعش أو النصرة أو القاعدة، هو خلاف على "المرجعية السياسية" وليس خلاف على "المرجعية الدينية" أو الممارسة الرجعية، أي أنهم يختلفون فقط في مسألة من هو "ولي الأمر" المعاصر الذي تجب طاعته وتنفيذ أوامره، وليس على مدى صحة أو خطأ تطبيق فتاوى ابن تيمية وابن عبدالوهاب الخاصة بالتكفير وإقامة الحدود.

ان الدولة السعودية اليوم، بـ نسختها الوهابية، تطرح نفسها كـ "رأس حربة" أو قائدة للإسلام "السُني" حول العالم، وهم في ذلك يتشابهون مع خصمهم اللدود إيران، التي تطرح نفسها كقائدة للإسلام "الشيعي" في العالم، لكن الفرق هنا أن إيران تنفرد في قيادة الشيعة بالعالم، فالمكونات الشيعية الأخرى لا تمتلك المؤهلات والقدرات الإيرانية في القيادة، لذلك نجدها تكسب تأييد الشيعة في الخليج ولبنان والعراق وباكستان بسهولة.

بينما الوضع على الجانب السُني يختلف، فهناك البديل التركي بتاريخه العثماني العريق، وهناك البديل المصري الأزهري المعتدل، وإلى جانبه البديل المصري الإخواني الثوري، ثم نأتي للوهابية السلفية ونسخها المتعددة، من القاعدة التي تحارب الأمريكان، إلى داعش التي تجرأت بإعادة الخلافة، والنُصرة التي تحارب "النصيرية" و"حزب الله" في الشام، إلى النسخة السعودية التي فقدت بريقها "الثوري" بعد انصراف آل سعود لإدارة شؤون حكمهم.

فإن كان هناك خطر على الدولة السعودية وحكامها اليوم، فهو خطر اتساع الفجوة الطبقية والفكرية بين الحاكم والمحكوم في الدولة، وعجز الحاكم عن تقديم ما يُشبع الحاجات الحقيقية لشباب الوطن، والفشل في إعادة صياغة جريئة وجذرية للمنهج الوهابي، حتى يتأقلم مع فكرة الدولة الحديثة في القرن الواحد والعشرين.

فـ نموذج الجهادي الوهابي العابر للقارات.. التهجيري المهاجر.. قاطع الرؤوس.. المُمثل بالجثث.. هادم الآثار.. ناسف الأضرحة والمساجد.. التكفيري الفارض لمعتقداته على الآخرين.. لم يعد له مكان ضمن الإطار الزمني الذي نعيش فيه اليوم، فالعالم أصبح يراه ويرى كل ما يرتبط به كـ عبء ثقيل يجب التخلص منه بأي ثمن، أيا كان شكله، وأيا كانت جنسيته، وأيا كانت "ماركته" أو اسم تنظيمه.

فلن يطول الأمد حتى يستوعب "الرأي العام" الغربي ارتباط "داعش" و"النصرة" و"القاعدة" بالمنهج الوهابي، وسيكون الوقت قصيرا جدا للربط بين "وهابية" هؤلاء و"وهابية" الدولة السعودية ووسائل إعلامها ومناهجها الدراسية، خصوصا بعد احتلال الشباب السعودي للمركز الثاني في عدد المقاتلين الأجانب في هذه التنظيمات الإرهابية[14]، والمركز الأول في عدد منفذي العمليات الانتحارية.







والخطر الحقيقي على حكم آل سعود، ليست إيران "الشيعية" كما يظنون، لكنه الفشل في تطوير شكل الدولة وأسلوب إدارتها، والفشل في تجديد أو "عَصرنة" خطابها الديني والسياسي، مما يضعهم في مواجهة خطر انجذاب الشباب السعودي لأحد البدائل "السُنية" المذكورة في الفقرات السابقة.

فـ إيران "الشيعية"، لن تتمكن في يوم من الأيام من جذب الشباب "القصيمي"، أو كسب تعاطف "سُنة" الرياض، لكن النسخة الوهابية "الداعشية" ستتمكن من ذلك بسهولة، خاصة وأن هناك مساحة واسعة من "الأرضية المشتركة" بين ما يمارسه الخليفة البغدادي وما يدرسه الطالب السعودي في المدرسة.



صفحات من منهج التوحيد للصف الثالث الثانوي


نقول ما سبق من باب النصيحة أولاً، والمصلحة المشتركة ثانياً، فما حصل في الأيام السابقة من تفجيرات داعشية لمساجد الشيعة في "القديح" و"العنود" ينذر بأن السكين قد بدأت بالفعل بتقطيع العظم، وأنا هنا لا أتحدث عن التفجيرات نفسها، فهي كانت متوقعة سابقاً، وأتوقع المزيد منها مستقبلاً.

لكن الخطر الأخطر هو ردود أفعال نخبة المجتمع السعودي على هذه الحادثة، فـ تسارع الجميع إلى التفذلك عبر اتهام "إيران" و"حزب الله" بدفع "داعش" لتفجير مساجد الشيعة لدق إسفين الفتنة في المجتمع السعودي، رغم أن التاريخ والجغرافيا والأيدلوجية والدفع العاطفي والتوجيه الإعلامي الذي يجعل الداعشي يفجر نفسه – مطمئناً - بمساجد الشيعة معروف مصدره، وهو نفس المناهج الوهابية التي تصف زيارة القبور والصلاة عندها والتوسل بالأولياء بالكفر والشرك والزندقة.

وهو نفس الإعلام السعودي الذي غسل أدمغة الشباب بتحويل كل مصيبة في العالم إلى حرب سُنية - شيعية بين السعودية وإيران، فالثورة في البحرين سببها التدخل الإيراني، والحرب في سوريا بين النظام "العلوي الشيعي" والسُنة المغلوب على أمرهم، رغم أن الكل يعلم بأن نظام "بشار الأسد" يعُج بالقادة السُنة، وأولهم رئيس وزرائه وائل الحلقي، ووزير دفاعه جاسم الفريج، ووزير خارجيته وليد المعلم، ونائبه فيصل المقداد !!

وتكرر الأمر في اليمن، فأصبح المذهب "الزيدي" الأقرب إلى "السُنة" شيعي ويقتل السُنة، رغم أن الحوثيين دخلوا في ستة حروب مع عدوهم السابق (وحليفهم الحالي) علي عبدالله صالح الذي ينتمي بالمناسبة إلى المذهب "الزيدي" أيضاً !!

وأنا هنا لا أنكر وجود العامل المذهبي بالمعادلة، ولا أنكر وجود مصالح إيرانية في هذه المعركة أو تلك، لكن استثمار العامل الطائفي والشحن المكثف الذي مارسته النخبة الخليجية تسبب في "استحمار" الجماهير وبرمجتهم على الموجة الطائفية فقط، دون الالتفات إلى العوامل الأخرى، والتي قد تكون ممارساتهم إحداها[15].





والنتيجة هنا، أن اتهام "الأطراف الخارجية" و"إيران" بالوقوف خلف العمليات الإرهابية، يعني بأننا لا نعاني من مشاكل "داخلية" أياً كان نوعها، وأننا نعيش في دولة "يوتوبية"[16]، ولسنا بحاجة إلى إصلاح نظامنا السياسي أو خطابنا الديني أو رسالتنا الإعلامية، بل أننا سنقطع الطريق على المتضرر إن حاول المطالبة بالإصلاحات، وسـ نتهمه بالولاء الخارجي وتنفيذ الأجندة الإيرانية، وبذلك على الجميع أن يصمت، فنحن بخير و"الله لا يغير علينا" !! 
   
وسؤالي هنا إليكم، في حال اقتناع العامة بأن إيران وقاسم سليماني الذي يحارب "داعش" في العراق، هم من يغسلون أدمغة الشباب السعودي بأدبيات المناهج الوهابية التكفيرية، وهم من يدفعون بهؤلاء الشباب لتفجير أنفسهم في المساجد الشيعية، فما الذي يمنع من أن يستخدم عوام الشيعة نفس الحجة، ويتهمون الحكومة السعودية بنفس التهمة، وأنها هي من تمول ياسر الحبيب ومتطرفوا الشيعة لإثارة الفتنة عبر سب الصحابة وأمهات المؤمنين، و"الله لا يغير علينا" أيضاً !؟

إن الشجاعة اليوم، ليست في استعداء الآخر وشيطنته حتى نشعر بملائكيتنا البريئة، بل هي في مواجهة النفس، والبحث عن مواطن الخلل، والغوص فيها حتى نصل للجذور، وعلينا اتخاذ إجراءات جراحية لقطع دابر الفتنة، وتحجيم التراث الديني بكل مراحله ومذاهبه وأديانه، فالدين يجب أن يكون علاقة روحانية بين الإنسان وربه، ولا دخل للدولة أو الآخرين فيها، ولولا ذلك لما جاء في الآية الكريمة من سورة يونس:

"لَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ"





[1] قد يتفاجأ البعض بأن أول قبر هُدمَ بأمر من الشيخ محمد عبدالوهاب هو قبر الصحابي الجليل زيد بن الخطاب، وهو الأخ الأكبر للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد سبقه للإسلام.
محمود الآلوسي، تاريخ نجد، طبعة دار الوراق، ص151
[2] محمود الآلوسي، تاريخ نجد، طبعة دار الوراق، ص153
[3] محمود الآلوسي، تاريخ نجد، طبعة دار الوراق، ص154
[4] حسب الرؤية "الوهابية"، فإن التوسل بالأولياء وزيارة قبورهم ونذر النذور باسمهم هي أشد مظاهر الشرك والكفر والبدع، وهذا ما جعل أتبعاع المذهب الجعفري (الشيعة) والصوفيين على رأس المشركين والكفار في معتقدهم.
[5] يتبع الشيخ محمد عبدالوهاب المذهب السُني على طريقة الإمام أحمد بن حنبل، وهو من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية وخليفته ابن القيم الجوزية.
[6] د. صالح الفوزان، كتاب التوحيد، ص9
[7] د. صالح الفوزان، كتاب التوحيد، ص36
[8] هاشم ناجي، الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد، ص58
[9] هاشم ناجي، الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد، ص79
[10] حدثت هذه الحادثة في عهد الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود، وقد تم اغتياله بعدها بعام واحد على يد رجل شيعي من العراق.
[11] هاشم ناجي، الوهابية بتقارير القنصلية الفرنسية في بغداد، ص59
[12] بدأت غارات الوهابيين على الكويت في العام 1793م، ثم في 1797م.
محمد اليوسفي، الكويت من النشأة إلى الاستقلال، ص38
[13] محمد اليوسفي، الكويت من النشأة إلى الاستقلال، ص152
[14] التونسيون احتلوا المركز الأول في هذه القائمة.
[15] مع بداية الثورة السورية، كانت التحليلات غير التابعة لدول الخليج تضع بعض التحليلات التي تشرح الأسباب الاقتصادية للصراع، خصوصا فيما يتعلق بخطوط الغاز وحقول النفط التي تحاول تركيا الاستفادة منها، والعامل السني الشيعي لم يكن يوما الأولوية الأولى في الصراع، وخير دليل على ذلك سلسلة المعارك والتقتيل التي مارستها "داعش" و"جبهة النصرة" و"الجيش الحر" ضد بعضها البعض، رغم أنهم كلهم ينتمون إلى المذهب "السُني"، بل أن النصرة وداعش ينتمون إلى المنهج "الوهابي".
والطريف هنا، أنه كلما احتدم القتال بين فصائل المعارضة السورية السُنية، حاول أحد الخليجيون التدخل لحل الخلاف وتقريب وجهات النظر من باب أننا كلنا "سُنة"، وعلينا اليوم التفرغ لمحاربة النظام "النصيري الشيعي".
[16] مثالية.