نجحت التيارات السياسية الاسلامية في تبني و نشر فكرة الدولة الاسلامية الحديثة التي تطبق أحكام الشريعة و تعتبرها المصدر الوحيد للتشريعات , و لا أبالغ ان قلت أن الكثير من الشباب المؤمن – المتحمس سياسيا – اقتنع بهذه الفكرة الى حد الهوس
و قد تطورت هذه الفكرة الى أن أصبحت الهدف الأسمى الذي يسعى لتحقيقه غالبية أتباع التيارات السياسية الدينية , بل أنهم أصبحوا يروجون هذه الفكرة كحل مثالي لحل مشاكلنا الحالية من خلال ترويج شعار الاسلام هو الحل
و السؤال المطروح هو , ما هي مكونات الدولة الاسلامية ؟ و من أين جاءت الفكرة ؟ و السؤال الأهم من أين جاءت هذه الصورة المثالية للدولة الاسلامية ؟
تختلف نظريات الدولة الاسلامية و مفهومها من شخص لآخر و من تيار لآخر , الا أن الفكرة الرئيسية تنحصر في دولة تحكمها حكومة تستقي قوانينها و تطبيقاتها مباشرة من الشريعة الاسلامية و لا تعترف بالمصادر الأخرى للتشريع , و تعتبر المملكة العربية السعودية و جمهورية ايران الاسلامية نموذج حي على أحد انواع الدول الاسلامية , الا أننا نجد المتحمسين لفكرة الدولة الاسلامية يرفضون مقارنة فكرتهم الوردية بهذين المثالين كون المستمسكات كثيرة على النظامين
و هذا ما يجعلنا نسأل , اذن ما هو نموذجكم المثالي؟
ما هو منظوركم لتطبيق الشريعة في دولتكم المنتظرة؟ الى أي حد ستتعمقون في التطبيق؟ نحن نعلم أن الدين ينقسم الى جانبين , معنوي و مادي , فكيف ستطبقون الجانب المعنوي؟ و الأجدر هنا أن نسأل كيف ستطبقون الجانب المادي؟
كيف ستقنعوننا بصحة – و شرعية – قوانينكم المستحدثة من اجتهاد قابل للصواب و الخطأ ؟ و ما هو ضمانكم على صحة تطبيق هذه القوانين؟ هل تضمنون لنا الجنة مقابل الالتزام بقوانينكم ؟ هل تضمنون الجنة لأنفسكم ؟ هل عندكم دليل قاطع على ضمانكم – لنا و لكم – للجنة ؟
كيف ستحلون اشكالات الاختلاف في التفسير و الفتاوى؟ هل تضمنون لنا أن حل هذه المشاكل سيتم بطريقة سلمية ؟ و السؤال الأهم
ما هو مصير الأسرة الحاكمة ؟ هل تريدون سلبهم و تعيين الخليفة أميرا للمؤمنين ؟
ما هو وضع الدستور ؟ ما هي المواد التي ستعبثون و تبربسون بها بعد الأسلمة؟
أعتقد ان رواج فكرة الدولة الاسلامية ازدهرت لسببين متشابكين
السبب الأول هو الحالة التعيسة و الأوضاع الصعبة - فقر و جهل و قمع - التي تعيش فيها معظم دول الشرق الأوسط – أغلب سكانها مسلمين – المحكومة بالنظم الجمهورية و الدساتير الوضعية الغير اسلامية
السبب الثاني هو ترسخ الصورة المشرفة و الشبه مثالية التي تروج لها التيارات الاسلامية عن تاريخ المسلمين الأوائل الذين تمكنوا من حكم العالم في زمن سابق
و من هنا استطاعت التيارات السياسية الاسلامية دمج هذين السببين لاقناع الأمة بفكرة جوهرية و هي أن ما نعانيه اليوم من ضعف و هوان و فقر يعود بالأساس الى ابتعادنا عن الاسلام و الرب و أن السبيل الوحيد للصعود مرة أخرى هو العودة الى الاسلام من خلال اعادة دولة الخلافة و تطبيق الشريعة
و لكن السؤال الأهم هو , هل هذه الصورة المثالية صحيحة؟ و هل تطبيق الاسلام و الشرع هو سبب نجاح دولة الخلافة في السيطرة على العالم؟
من خلال قرائتي البسيطة جدا في التاريخ الاسلامي – لا أدعي التبحر به – اكتشفت أن تاريخ الدول الاسلامية لم تكن مصبوغة باللون الوردي دينيا , ففساد و اسراف الحكام و الولاة كان أمرا شائعا , و ظلم علماء الأمة و سجنهم أيضا كان أمرا شائعا , و الحروب بين الدويلات و العوائل الحاكمة كان أمرا متكررا , نعم كانت الدولة مزدهرة دنيويا – عسكريا , علميا , اقتصاديا – لكنها لم تكن دولة الفضيلة الدينية
أيضا لا أعتقد - شخصيا - بأن تطبيق الدين – قانونيا - هو الوصفة السحرية التي ستعيد المسلمين الى سابق عهدهم , فالدول العظمى – الغرب الكافر - اليوم لا تطبق أي دين بشكل صحيح,الا أنها تسيطر على العالم من خلال قوتها الاقتصادية و العسكرية و العلمية و الصناعية و السياسية . أعترف بأن الدين له الكثير من الجوانب الأخلاقية الايجابية الا أن الأخلاق الحميدة ليست السلاح المثالي لمواجهة عسكر و صناعة و اقتصاد الأعداء
و بالمناسبة هل ستكون هزيمة الأعداء – الكفار – أحد أهداف الدولة الاسلامية ؟ هل ستنشيء دولة كويت ستان جيشا عملاقا يغزو الدول الأخرى لنشر الاسلام و استعادة أمجاد الأجداد في الأندلس و القسطنطينية؟
على طاري كويت ستان , ألا تمنع كويت ستان الخمور ؟ ألا يمنع دستورها اقامة الملاهي و المراقص الليلية ؟ ألا تحرّم قوانينها – الحالية – لعب القمار ؟ أليس قطاعها المالي متخم بالمؤسسات المالية الاسلامية ؟ ألا تمنع كويت ستان طلابها من أكل صمون الفلافل مع طالباتها تحت سقف واحد؟ ألا تفرض علينا حكومة كويت ستان دفع زكاة – المسخ – الواحد بالمئة؟ ألا تغرم كويت ستان من يجاهر بالافطار في نهار رمضان؟ ألا تغلق أبواب السينما في العشر الأواخر لعدم الهاء المؤمنين – أتعب عالايمان – عن العبادة؟ ألم تمنع كويت ستان عبر مجلسها البلدي – الموقر – توسعة و اقامة دور عبادة للديانات الأخرى ؟
هل هناك مجال حقيقي لاضافة قوانين دينية – تنموية – أخرى بعد تحول كويت ستان الى دولة اسلامية رسميا؟
الى متى - و الى أين - سيستمر هذا الهوس الديني الدنيوي؟ ألا تشعرون بمدى التلوث الذي أصاب الدين من جراء هوسكم – أو هلوستكم بمعنى أصح؟
ألا ترون أن صلاة و صيام و زكاة الاجبار تعتبر تلويثا للدين ؟ ألم يخبركم علمائكم بأن الجانب المادي للعبادات الدينية لا معنى له ان لم يكن مقرونا بنيّة صادقة في الجانب المعنوي لهذه العبادات؟ أم أن تطوركم التكنلوجي يسّر لكم اختراع جهاز يكشف النوايا المعنوية ؟
أبلغوني أن تمكن أحدكم من الاجابة على نصف هذه الأسئلة حتى أرسل له بقية تساؤلاتي حول جنتكم الدنيوية المنشودة , نعم أعترف بأن النظام العلماني – فصل الدين عن الدولة – ليس مثاليا الا أن تطبيقه مع معرفة عدم كماله أفضل الف مرة من خداع الأمة بسراب الدولة الاسلامية المثالية
.
نقطة
ألخص هذه السلسلة
ضرورة التعامل بدقة شديدة مع التسميات و المصطلحات حتى لا نخلط الأمور
ضرورة الفصل بين المنهج الفكري العام و الأشخاص الذين يمارسونه على أرض الواقع
ضرورة الاعتراف بعدم وجود نماذج الخير و الشر المطلق بعد انقطاع الوحي الالهي بوفاة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم
ضرورة الفصل بين اسلام الوحي في عهد الرسول – ص – و اسلام الاجتهاد القابل للصواب و الخطأ
العلمانية لا تعادي الأديان و لكنها حل محايد لضمان عدم صراع و اقتتال أتباع هذه الأديان
مع وجود الرسول – ص- في سدة الحكم تنتفي الحاجة الى مدارس الفكر الأخرى , و لكن وجودها ضرورة حتمية عند اختلاف المعتقدات و الطوائف بعد وفاة الرسول
رغم النجاح الباهر في نشر الاسلام , الا أن الدول الاسلامية السابقة لم تكن مثالية دينيا
تزدهر فكرة الدولة الاسلامية نتيجة الأوضاع التعيسة التي يعيشها المسلمين حاليا في ظل حكم الأنظمة الوضعية
تطور و ازدهار الدولة يرتبط أساسا بالقوة العلمية و العسكرية و الاقتصادية بغض النظر عن مدى التزام الحكومة للدين
الدولة الدينية هي أول عدو و مخرب للدين
انتهى