Monday, March 24, 2014

المُقدَّس


يتميز عقل الإنسان عن غيره من الكائنات بقدرته الخيالية الخارقة، فعقل الإنسان قادر على رؤية غير الموجود، وسماع غير المنطوق، واستحضار ما لم يتم، وتوقع ما لن يكون، هو ببساطة قادر على إضافة تخيلاته وأوهامه وأمنياته ورغباته ومخاوفه إلى الحقائق الملموسة الموجودة أمامه، بل إنه أحياناً يعطي لغير الموجود وزناً يفوق وزن ما هو موجود.

قد لا يكون الهدف من الفقرة السابقة واضحاً، ولا يمكنني في هذا المقال شرح كل ما قصدته فيها، لكن ما يعنيني هنا هو التوضيح بأن لعقل الإنسان قدرة على خلق ما نطلق عليه اسم الـ"مُقدَّس"، وهذا المقدس يمكن أن يكون "حقيقياً" أو خيالياً، موجوداً أو غير موجوداً، بل إن وجوده قد يكون سابقاً أو لاحقاً أو حاضراً، وهو بذاته قد يكون ملموسا أو محسوساً أو مشعوراً، حيواناً أو إنساناً، جماداً أو نباتاً أو كائناً اسطورياً، وقد برع العقل البشري في اختلاق الآلاف من هذه "المقدسات" منذ دخوله حيِّز الوعي التوثيقي إلى يومنا هذا. 

وقد لا نشرح هنا "آلية" خلق "المقدس" وترسيخ وتأكيد قدسيته، لكن أود أن ألفت انتباه القارئ إلى أن الإنسان في كل عصر وزمان دافع بشراسة عن مقدساته، وكان في بعض الأحيان يقاتل ويقتل الآخرين من أجلها، بل أن التاريخ الإنساني شهد في بعض لحظاته حروبا عنيفة بين هذه "المقدسات" راح ضحيتها الآلاف من البشر من المؤمنين بهذا المقدس أو ذاك، وفي العصور الوثنية كانت العلاقة تبادلية بين "المقدس" والمؤمنين به، فإذا كان المقدس قوياً سيمكن المؤمنين به من النصر على أتباع المقدس الآخر، وإذا كان الشعب قوياً فسيتمكن من جعل "مقدسه" ينتصر على مقدس الشعوب الآخرى. 

هذه المقدسات، يتعامل معها المؤمنين بها بمزيج من الخوف والخشوع والحب والهيام والتبرك، رغم أن بعض هذه المقدسات لم تنظر إلى نفسها بهذه الطريقة، ولم تطلب من أحد أن يتعامل معها بهذا "التقديس" المفروض عليها جبراً!! خاصة إذا نظرنا إلى المقدسين من البشر، فسنجد بأن أغلبهم عاش مسجوناً، ومات مقتولاً، وكان من أصحاب الحظ العاثر في الحياة تحت حكم من يعاديه، وبين من يقتاتون على الوشاية به، فأي مفارقة هذه التي تجعلك تعيش جائعاً مطارداً مهاناً، فتموت ويأتي من يجعل "الصورة" التي وصلته عنك مقدسة إلى الحد الذي لا يقبل به انتقادك ويتوسل في شفاعتك!!

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل هذه المقدسات تستمد قدسيتها من نفسها، أي من الذات أو الداخل؟ أم أن قدسيتها تأتي من الخارج؟ وإذا كانت قدسيتها تأتي من الخارج، فمن يعطي الحق لهذا الطرف أو ذاك في إضفاء "القدسية" على هذا الشيء أو ذاك الشخص أو هذا الوهم!!؟

ما الذي يجعل التعدي على مكانة هذا "المقدس" حراماَ هنا، ويجعل التعدي على الـ"مقدس" الآخر محموداً هناك، هل هو الموقع الجغرافي لهذا المقدس أو ذاك!؟ أم هي كثرة عدد "المؤمنين" والأتباع؟ طيب وماذا لو انحسرت هذه الأعداد، أو تم نقل المقدس إلى أرض غريبة، فهل سيفقد "المقدس" قداسته!؟

أين قدسية "أبولو" اليوم؟ وكيف أصبحت عبادة "البعل" كفراً بعد أن كان سيد الآلهة؟ وهل للبقرة أي قدسية في مطاعم الـ ستيك الأمريكية!؟ وهل لتراب كربلاء أي قداسة في أدغال أفريقيا!؟ وهل للصلبان أي قيمة مقدسة في قرى الصحراء العربية!؟ كيف لا يرى أصحاب المقدسات انعدام قيمة مقدساتهم عند الآخرين ويسألون أنفسهم عن مصدر القدسية في مقدساتهم!؟ بل كيف يتفنن هؤلاء في التعدي على مقدسات الآخرين رغم علمهم المسبق بقدرة الآخرين على فعل الشيء نفسه بمقدساتهم!؟


كيف لا يلاحظ الناس اليوم، في 2014 م، أننا لا زلنا نخلق الهالات "المقدسة" حول بعض الشخصيات التي لم تطلب هي القداسة!؟ بل أننا قد نُورِّث "قدسية" هذه الشخصيات إلى أبناءنا، وبالتالي يمكننا أن نتساءل عن المقدسات التي ورثناها نحن عن أباءنا وأجدادنا، هل هي مقدسة لـ خير فيها أو بركة جلبتها، أم أن الأمر لا يتعدى الإضفاء من الخارج!؟