Thursday, July 05, 2012

مرض و علاج


في البداية أود الإعتراف بأني أكتب هذا المقال بعد مكالمة عاصفة مع أحد الأصدقاء كادت أن تنتهي بالضرب لولا ستر الله و بعد المسافة , لذلك أعتذر مقدما للقراء عن طشار الغضب الذي سـ يطيش من كلماتها , و بما أنني أسير في نفق الإعترافات فلا مانع من تقديم إعتراف آخر و هو أنني تعبت , و طولة بالي لم تعد كما كانت عليه في السابق , فكثرة الحديث و التكرار و إقناع الآخرين أتعبتني , لذلك أرجو المعذرة على عدم قدرتي على مناقشة ما جاء في المقال بعد نشره مباشرة
عند الحديث عن السياسة ينقسم الناس إلى نوعين , النوع الأول هو مواطن "الهم الحقيقي" الذي تنحصر همومه في شؤون حياته اليومية بداية في الحصول على الأمن و الرعاية الصحية و التعليم الجيد الذي يؤهله للحصول على العمل المناسب و من ثم القدرة على الزواج و تكوين أسرة صغيرة لا يسعدها و يضمن إستقرارها إلا الحصول على الرعاية السكنية المناسبة و من ثم إكمال مشوار الحياة إلى سن التقاعد و طلب الرعاية الإجتماعية , يريد أن يحصل على كل ذلك بالقدر المعقول من تأدية الواجبات مع ضمان مساحة معتدلة من الحرية التي يمارس فيها ما تبقى له ميول و معتقدات و آراء , ضمان سعادة هذا المواطن تكون بطبيعة الحال بضمان و توفير الدولة لكل ما سبق
أما النوع الثاني من المواطنين فهو مواطن "الهم السياسي" الذي يتشارك مع المواطن الأول في كل همومه السابقة بالإضافة إلى إنتمائه لأحد المدارس الفكرية السياسية التي يحرص على تطبيق نظرياتها و تحقيق أهدافها , هذا ما يجعل رضا و سعادة هذا المواطن مرتبطة مباشرة في نجاح تياره السياسي في الدولة سواء بعدد المناصب القيادية أو عدد الوزراء في الحكومة و عدد أعضاء البرلمان , هذا ما سيحقق له القدرة على نشر – أو فرض – أفكاره في المجتمع و بالتالي وضع القوانين التي تناسبه فكرياً و سلوكياً
المشكلة أو الإشكالية هنا هي أن الدولة في العادة لا تنجح في تلبية كل حاجات و طلبات مواطن "الهم الحقيقي" , فإن نجحت في توفير الأمن فهي تُقصر في الرعاية الصحية , و إن نجحت في توفير الرعاية الصحية تُقصِّر في توفير السكن و هكذا , هذه متلازمة طبيعية و تكاد تتكرر في جميع الدول و المجتمعات , فمن النادر أن تجد مواطن صاحب "هم حقيقي" راضي كل الرضا عن أداء دولته أو الحكومة التي تدير شؤونها
هنا يأتي دور مواطن "الهم السياسي" الذي يستغل حالة عدم الرضا التي يعاني منها مواطن "الهم الحقيقي" فـ يوهمه بأن السبب الحقيقي لعدم حصوله على طلباته هو فساد الدولة الحالية أو الحكومة التي تدير شؤونها و أنه في حال الثورة على هذه الحكومة و إستبدالها بحكومة أخرى – ينتمي إليها مواطن "الهم السياسي" – فسيتمكن من الحصول على جميع طلباته و إراحة جميع "همومه الحقيقية"
بطبيعة الحال ستشعل هذه الإغراءات حماسة مواطن "الهم الحقيقي" فينضم إلى مواطن "الهم السياسي" و يتعاون الإثنان على إسقاط الحكومة – سلمياً في حالة الإنتخابات – و تعيين حكومة مواطن "الهم السياسي" مكانها لينكشف المستور , و المستور هو أن الحكومة الجديدة لن تنجح في تلبية جميع طلبات مواطن "الهم الحقيقي" الذي سيستمر في التذمر بينما تمرر حكومة مواطن "الهم السياسي" مصالحها و قوانينها كما تشاء إلى أن يتكرر السيناريو السابق مرة أخرى
هذا المثال المبسط لم يأتي من فراغ , فهو سيناريو واقعي يتكرر في كل الديموقراطيات العريقة في العالم و بشكل شبه يومي , فالمواطن الأمريكي صاحب "الهم الحقيقي" لم تتحقق كل أحلامه و طلباته بوصول المواطن أوباما صاحب "الهم السياسي" للسلطة , و تذمر المواطن البريطاني صاحب "الهم الحقيقي" لم تتوقف بعد وصول المواطن كامرون صاحب "الهم السياسي" للسلطة , هذه طبيعة الحياة و العلاقة بين مواطن "الهم الحقيقي" و الدولة
لا شك في أن النظام الديموقراطي المتكامل و إكتمال آلية تداول السلطة تضمن للدولة و مواطن "الهم الحقيقي" بعضا من الإستقرار و تلبية الحاجات إلا أنها ليست الضمانة الوحيدة , فقبل أسابيع إجتمعت بأحد مسؤولي الحكومة البريطانية الذي أثار معي قضايا الربيع العربي و الحكومة الشعبية فقلت له بأني اليوم لا أشعر بالأسى من أجل المواطن المصري و الليبي , بل أشعر بالأسى من أجل المواطن البريطاني صاحب "الهم الحقيقي" , المواطن البريطاني الذي يعتقد أنه يعيش في ظل حكم ديموقراطي و حكومة شعبية قادها المواطن توني بلير صاحب "الهم السياسي" و الذي ضلل شعبه و أدخله في حربين لا ناقة له و لا جمل فيها , و المصيبة هي أن هذا المواطن البريطاني صاحب "الهم الحقيقي" لا يزال يدفع و يعاني من تبعات هذه الحروب المتهورة من خلال زيادة الضرائب و تعرض بلاده للأزمات الإقتصادية الخانقة
اليوم في الكويت برزت لنا مجاميع من مواطنين "الهم السياسي" لتُسوِّق لنا فكرة الحكومة الشعبية و النظام الديموقراطي المتكامل الذي من خلاله سينعم مواطن "الهم الحقيقي" بكل ما يطمح إليه من حاجات كالصحة و الأمان و التعليم و السكن , خصوصاً و أن كل ذلك يأتي في ظل فشل الدولة – نسبياً – في تلبية هذه الهموم و الحاجات , و المشكلة هنا و بسبب رداءة الطرفين نجد أن مواطن "الهم السياسي" لم يتعب نفسه في شرح الكيفية التي سيلبي فيها حاجات مواطن "الهم الحقيقي" الذي لم يتعب نفسه أصلاً بالسؤال , هكذا أدخلنا الإثنان في حالة من الفوضى السياسية و الفكرية التي لم نعد نعرف كوعنا من بوعنا في دهاليزها
يعتقد البعض للأسف بأن الديموقراطية أو إختيار الشعب لمن يدير شؤونه هي الحالة الفطرية في الدولة , لكن الحقيقة هي أن النظام الديموقراطي جاء كـ علاج لمرض مزمن كان يعاني منه مواطن "الهم الحقيقي" سابقاً و هو أن هذا المواطن يؤدي واجبه للدولة من خلال دفع الضريبة , فيقوم الحاكم أو الحكومة بأخذ هذه الأموال و يقوم بصرفها في مصالحه و مصالح من حوله و يهمل "الهموم الحقيقية" للمواطن , هكذا جاءت فكرة الديموقراطية كأفضل العلاجات التي تخول مواطن "الهم الحقيقي" دافع الضرائب لإختيار و مراقبة من يدير أمواله , و في حال فشل من إختارهم في المرة السابقة فتداول السلطة يتيح له إختيار فريق آخر في المرة القادمة
المشكلة في الكويت أن المرض مختلف , و بالتالي فإن العلاج يجب أن يكون مختلف أيضاً , فالمواطن لا يدفع ضريبة للدولة و لا يؤدي أي واجب فعلي إتجاهها , لذلك و من خلال القياس على تجربة التصويت لمجلس الأمة نجد أن هذا المواطن الكويتي صاحب "الهم الحقيقي" سهل الإنقياد لمواطن "الهم السياسي" و هو يتساهل أيضاً في التفريط بأصواته التي لا يخضعها للمعايير الموضوعية لـ"همومه الحقيقية" , و هذا ما يجعلنا متيقنين من أن عدم إنضباطية هذا المواطن في التصويت لمجلس الأمة ستنتقل أوتوماتيكياً إلى تصويته للحكومة الشعبية مما لا يبشر بأي تطور حقيقي في قدرة الدولة على تلبية حاجات و هموم مواطن "الهم الحقيقي"
نكرر مرة أخرى بأن المرض الذي تعاني منه الكويت يختلف جذرياً عن المرض الذي تعاني منه الدول الأخرى , لذلك فعلاج الحكومة المنتخبة لن يداوي الكويت و يلبي مطالب مواطنيها , بل على العكس من ذلك , فالحكومة المنتخبة التي يرتبط أعضاءها إرتباطاً مباشراً بناخبيهم – الغير منضبطين – ديموقراطياً بالدولة سيحول هذه الحكومة إلى حكومة فئوية تعامل المواطنين بعقلية نائب المعاملات و تمارس الإقصاء الذي يمارسه المواطنين بينهم و بين بعضهم في حياتهم اليومية , بل أنها قد تساهم في هدر ما تبقى من مدخرات الدولة بعد أن أهدرت الحكومات السابقة بعضها إرضاء لأهواء ناخبيها , و لا نستبعد أن تدمر هذه الحكومة الشعبية علاقات الكويت الخارجية كما يفعل نوابنا المطافيق حالياً كلما برزت أزمة هنا أو هناك
نعم الكويت تعاني من الأمراض , و نعم النظام الحالي سيء بكل ما فيه بداية بنصوص الدستور و إنتهاءً بتطبيقه , إلا أننا لن نغامر بعلاج هذه الأمراض بطريقة عشوائية و عاطفية من خلال دغدغة مشاعر مواطن "الهم الحقيقي" بشعار الحكومة المنتخبة , فعلاج السرطان يختلف عن علاج السكر , و علاج السكر يختلف عن علاج التجلطات الشريانية , فإن كنتم حريصون بالفعل على المريض عليكم البحث بحرص عن الطبيب

6 comments:

loco said...

اصبت في كلامك ولكن .....هل بالفعل هناك دواء لمرضنا ..بعتقادي لا يوجد حاليا هذا الدواء و السبب هو بأنه المريض ( المواطن ) لا يريد العلاج بأي نوع من انواع الادويه فهو كالطفل الذي يخاف ان يأخذ العلاج لسبب جهله بأنه العلاج هو الوحيد الذي يشفيه من مرضه

Vinnie said...

مقالتك معقولة وعقلانية لكن هناك بعض النقاط المستحقة الرد عليها
أولا مقارنتنا ببريطانيا وأمريكا غير عادلة لعدة أسباب

شاللي خلى الكويتيين يقررون يتحركون ويطالبون بصلاحيات ماكانت متوفرة لهم بالسابق؟
يمكن اذا ترجع الى كلمة د. سعد بن طفلة بتجمع حدم لما قال تعلمت قبل ٣٥ سنة في جامعة الكويت في مبنى مؤقت والآن بعد ٣٥ سنة أدرس الطلبة في نفس المبنى المؤقت
اذا كنا دولة نفطية ونبني محطات الكهرباء بالخارج ونقطع الكهربا عندنا بالصيف
صحيح احنا ما ندفع ضرائب لكن هذا على حسابنا حيث ان الثروة تعطى للشعب بالقطارة لكنها تصرف على فئة معينة من الاحتكاريين والمتنفذين

تعدي وفساد والسلطة التنفيذية لا تتعب نفسها بمحاسبة الفاسدين والمفسدين بل تسعى دائما إلى طمطمة الفضائح وتجنب المحاسبة
سنين وفوائض الميزانية بعشرات المليارات ولم نتقدم حتى قليلا ولا تحاول الحكومة تسويق نفسها للشعب لأن ماهمهم الشعب
المهم عندهم الصراعات الداخلية بين المتنفذين

المواطن معاناته زادتزحمة، بنية تحتية متهالكة، توقف بالتطور بوقت الفائض يقدر بمئة مليار دينار
تضخم بالاسعار، سياسات احتكارية ضد المواطن مع المتنفذ
ومع فضيحة رشاوي المليونية للنواب القبيضة، استنتج الشعب ان من الضروري ان يمسك بزمام الأمور ويجعل الحكومة تواجه مسئوليتها أمام الشعب وليس أمام المتنفذين

بالنسبة لكيفية النظام البرلماني فهناك العديد من التصورات وأرجحهها واكثرها تقبلا لدى النواب حاليا هي نظرة حدم بالقوائم النسبية المغلقة والدائرة الواحدة مع الاصلاحات المستحقة طبعا من انشاء هيئة مستقلة للانتخابات وهيئة للنزاهة ومكافحة الفساد

وعموما لا مانع من الاختلاف عالتفاصيل والدخول بحوار طالما نتفق على المبدأ والهدف

Unknown said...

مين الطبيب مشان الله اخبرنا

AO said...

حكومة مخسبقه ومعارضه تبي اللقمه لها !
واحنا ضعنا بين الاثنين

Safeed said...

إلى درجة نحن مقلدون؟ بل إلى أي درجة نحن متأخرون بالتقليد وفاشلون فيه؟
بين كل كلمة والثانية يضرب المثال بدول الغرب، شوف أمريكا، شوف بلجيكا، شوف بريطانيا، وهات من القصص والحكايات والمواقف الشيء الكثير، لكن لا أحد منهم، لا أحد، يتحدث عن المواطن الغربي ورؤيته للواقع الحالي عنده! شي غريب
الحياة في الغرب قاسية، قاسية بمعنى الكلمة، الوظيفة غير مستقرة وفي أي لحظة قد يجد المواطن فيها ماسك الباب! الضراب بدأت تلتهم أكثر من ثلث الرواتب وبعضها وصلت لقرابة نصف الراتب! أسعار المحروقات حرقت الناس! تكاليف التعليم وصلت لمستويات بات فيها الطالب البريطاني يهاجر للولايات المتحدة حتى يكمل دراسته الجامعية بأسعار أقل! المواطن الفرنسي انهكته تجاذبات الأقليات ومشاكل المستعمرات السابقة المكلفة، وعلى هذا قس! المواطن الغربي يريد الآن تعليما ومنزلا يأويه ووظيفة مستقرة وأمان يستطيع أن يربي أبناءه فيه .. سأم من تكرار نفس الوجوه السياسية ومن الأزقة التي تقذفه الأحزاب فيها .. كنت أتحدث مع بعض أصدقائي وأنصدم من شدة "سوداوية" المنظر الذي يرونه .. ونحن بدلا من أن نوجد حلول لواقعنا نأتي لنستعير مشاكل الغير! لا زلت أذكر بعد الثورة المصرية حينما طالبت الجماهير المصرية بإلغاء جهاز أمن الدولة ثاني يوم بالضبط خرجت نفس المطالبة عندنا في ساحة التغيير! إلى هذه الدرجة نحن فارغون ولا نملك إلا استعارة الشعارات والمطالبات من الآخرين ... للأسف التاريخ يثبت أننا لم نكن يوما بقدر مسؤولية التعامل مع الأعطية التي أعطيت لنا .. فلا عجب أن لا نرى طريقا إلا الانهيار [ونحسب أننا نحسن صنعا]! .. الله كريم

Lilacisim said...

أعتقد أن المواطن نفسه يحمل المرض وينقلهُ عبر جيناته لأجياله .. فعندما يجعل حاجته تسيطر على المنطق وبالتالي ينقاد لمن يحقق أحلامه أسرع !! يقع فريسة لشعارات من أشخاص بعضهم يهدف للوصول بأي طريقة علىٰ أكتاف هذه المتطلبات أو الخدمات ،،

ولا يستثنى المواطن من الخطأ حين تمر أمامه سلسلة من الأحداث المتكررة ولو اختلف القالب ، ويظل غشيماً لا يتعظ من التجارب التي سبقت نفس التجربة في إطار مختلف ، لا ألومه أنه يسعى للتغير لكن التغير الذي يأتي نتيجة ثورة عاطفية كما ذكرت غير مبنية على أسس ثابتة هشه قابلة للإنهيار ،،

لا اعتقد أن المواطن وأعني هنا شريحة كبيرة من المواطنين مهيأ لصنع نمط جديد لمعيشته بانتخاب حكومة شعبية .. وهو اساساً فاشل في اختيار فرد واحد يمثل ايدلوجياته بشكل متزن وعقلاني ومحاسبته بإقصائه في الإنتخابات اللاحقة بعدم إعطائه كرسي في البرلمان ..

هذا لا يعني أن اللائمة تقع مفردة على المواطن لكن من يعيش وفي فمه ملعقة من ذهب لن يشعر أبداً بحجم الخطر الذي قد يسحب عيشه الهاني في أي لحظة ،،

طرح جداً ذكي وتوقيت مميز