شغلتني الأيام أو الأسابيع الماضية عن
الأحداث السياسية و التعليق عليها , فمنذ ظهور نتائج هذا المجلس توقعت مسيرته
المجيدة قائلا : "هذا ما ستحصلون عليه , فلا تطالبوا بعد ذلك بالتنمية و الجامعات و
الإقتصاد و الأمن و سيادة القانون , كونوا صادقين مع أنفسكم و مع مُخرجاتكم , هذه
المخرجات قد تطالب بمنع هذا و فرض رقابة على ذاك , لكنها بالتأكيد لن تدفع بأي
إصلاح إقتصادي حقيقي , ربما تزعق مخرجاتنا الشعبية بمطالباتها بتطبيق القانون ,
لكن زعيقها سيتضاعف في تمييع القانون و تجاوزه عندما يقترب من المقربين منهم , هم
إنعكاس مباشر لنا , و لنفوسنا , و لسوء نوايانا و إستهتارنا بمستقبل بلدنا"
و لأكون صريحاً معكم فالمجلس و أغلبية نوابه فاجأتني
بمستوى غير مشهود من العبثية و السطحية بدءً بمنع إقامة ملتقى النهضة ثم إعدام
المعتدي على ذات النبي ثم هجومه على الشيشة و غيرها من المواضيع التي ضربنا عليها
أخماس الحرية بأسداس العقل , هذا ما منعني عن التعليق على هذا العبث و التهريج إلى
أن جاء النائب الصديق فيصل اليحيى و بدأ يطرح موضوع الحكومة الشعبية , فعندما يطرح
الطبطبائي هذه القضية نعلم بأنه يُبغبِغ ما يسمعه من الآخرين دون إدراك أو إلمام
حقيقي للموضوع من جميع جوانبه
أما فيصل اليحيى فقد تعاملنا معه سابقاً و نعرف جيداً
رجاحة عقله و عمق تفكيره و دقة حساباته , و بما أنه طرح موضوع الحكومة الشعبية
بطريقة أعمق مما طرحه زملاءه من النواب أجد أن من واجبي الرد على هذه الفكرة بهذه
المقالة
لمن لا يعرف فيصل اليحيى فهو مهندس حملة "إرحل . .
نحن نستحق الأفضل", و هو يؤمن بفكرة الحكومة الشعبية منذ سنوات طويلة و
الفكرة ليست جديدة عليه , لذلك كان طرحه الإعلامي لها منطقياً إلى حد ما , فيقول
فيصل بأن المسيرة التاريخية لمجلس الأمة و الحكومة تضعنا أمام طريق مغلق حيث أننا
و لمدة 50 سنة سابقة لم نشهد مجلس يكمل دورته مرتين متتاليتين بعد المجلس المزور
في عام 1967 , و عند الحديث عن الحكومة فالطامة أكبر , هكذا نواجه الحقيقة المُرة
و هي أن دستورنا يعاني من الخلل و نحن بحاجة ماسة لتعديل بعض مواده
إلى هنا و طرح النائب اليحيى منطقي , لكن الغير منطقي هو
قفزة الموت التي قفزها فيصل و أتباعه على الكثير من مواطن الخلل في الدستور
الكويتي و التركيز فقط على تعديل سطحي يتيح لـ دهينة الناخب الكويتي إنتخاب حكومته
و رئيس وزراءه , و كأننا لا نعرف تعاسة هذا الناخب و لم نتأكد من سوء خياراته
الديموقراطية يا فيصل هي حكم الشعب لنفسه , أو هي آلية
تُمكن الشعب من إختيار حُكامه و نظام حكمه , لكن السؤال الأهم هنا هو من أين جاءت
فكرة الديموقراطية ؟ أو من أين حصل الشعب على حقه في حكم نفسه ؟ الإجابة هي أن
علاقة الفرد بالدولة - المُمثلة بالحكومة – تخضع لمسطرة الحقوق و الواجبات , و
الواجب الذي يؤديه الشعب للدولة و يُخوله للمطالبة بحقوقه هو دفع نسبة متفق عليها
من دخله للدولة كضريبة , فالديموقراطية جاءت كـ حل لهذه الإشكالية
الشعب يعمل , و الشعب يحصل على المال مقابل هذا العمل ,
ثم يدفع نسبة منه للحاكم أو الحكومة , لكن هذا الحاكم أو الحكومة يتصرف بأموال
الشعب بطريقة ترجح مصلحته الخاصة على مصلحة المالك الحقيقي لهذا المال و هو الشعب ,
فالحاكم يبني القصور و يُسلح الجيوش و يشن الحروب طمعاً في توسع ملكه و محيط
مملكته , مهملاً بذلك حاجات الشعب من رصف الطُرق و تأمينها و بناء الأسوار و
الموانيء و المشافي و غيره
هذا ما دفع الشعوب للمطالبة بـ حقها في إختيار حاكمها و
نظام حكمه الذي يضمن لها حسن تصرفه في أموالها الضريبية و عدم تبديدها على مصالحه
الشخصية , و تأدية هذا الواجب هو ما دفع مجموعة من كبار تجار الكويت لإشتراط
موافقتهم على حكم الشيخ أحمد الجابر موافقته على تأسيس مجلساً للشورى في العام
1921 , فقد رأى هؤلاء بأن الحكم الفردي للشيخ مبارك و إبنيه جابر و سالم أدى إلى
بعثرة أموالهم الضريبية في حروب خاسرة لا ناقة لهم و لا جمل فيها , و بالرغم من
عدم نجاح هذه التجربة إلا أن دافعي الـ"واجب" الضريبي طالبوا بتأسيس مجلس
تشريعي آخر في العام 1938 , خصوصاً بعد تطوعهم في زيادة نسبة واجباتهم الضريبية
إتجاه الدولة حتى تتمكن من إنشاء مجلس بلدي يهتم في نظافة المناطق و تنظيمها
المثير هنا أن "نص" تأسيس المجلس التشريعي
مكَّن أعضاءه من أداء أدوار السلطة التنفيذية و التشريعية و جزء من السلطة
القضائية , بذلك إنتقل الحكم في الكويت من الطريقة الفردية للحاكم إلى حكم كامل
للشعب في يوم و ليلة , و كانت النتيجة الحتمية لهذا الإنتقال السريع و المفاجيء هو
الصدام بين سُلطة "النص" و سُلطة الواقع إنتهت بمحاولة إنقلاب لم تخمد
إلا بقتل البعض و سجن آخر و نفي فئة ثالثة
بطبيعة الحال عاصر أغلب المشاركين بأحداث مجلسي
(1938-1939) عهد الإستقلال و المجلس التأسيسي و من ثم لجنة صياغة الدستور , هذا ما
جعلهم أكثر حذراً هذه المرة في صياغة الخطوط الفاصلة بين سُلطة "النص" و
سُلطة الواقع , فأتت النتيجة بالشكل السيء الحالي من تناقضات صارخة بين سلطات سمو
الأمير و حكم الأمة , و بين الأسلمة و حريات الإعتقاد , و بين حصر سلطات مجلس
الأمة و تضخيم حجم النائب , و تجتمع كل هذه التناقضات مع باقة أخرى من تشطيبات
القومية العربية و تطعيمات مثالية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
كل ذلك يجتمع في "نص" دستورنا الحالي الذي زادت
الممارسة الميدانية له سيئاته , فقد تعاونت الحكومات المتعاقبة مع نواب مجالس
الأمة على إثقال كفة حقوق المواطن و تخفيف كفة واجباته , فأصبحت الحكومة مُلزمة
بإيجاد فرص عمل لكل مواطن مهما كانت قدراته مع أنها دستوريا غير ملزمة بذلك ,
تزامن ذلك مع إلغاء كافة أنواع "الواجبات" الضريبية ليصبح لدينا مواطن
كويتي ينعم بالكثير من الحقوق بلا واجبات
هذا هو الخلل الحقيقي في طبختنا السياسية , فالمواطن الذي
ليس لديه – و لا يعرف – واجب حقيقي إتجاه وطنه يقع ضحية فخين , الفخ الأول هو
الإعتقاد بأن عدم إلزامه بتأدية أي واجب إتجاه الوطن يحرره من أي إرتباط فعلي به و
بمصلحته العامة فيصبح مُهملاً , أما الفخ الثاني فهو الإعتقاد بأن عدم إلزامه
بتأدية واجب محدد إتجاه وطنه يجعله مسؤولاً عن تأدية الكثير من الواجبات فيقحم
نفسه في مسائل ليست من إختصاصه لتصبح الدولة حارة كل من إيدُه إلُو
إن رئيس الوزراء الشعبي و النظام البرلماني الكامل الذي
يدعو له فيصل اليحيى لن تتحقق أهدافه من خلال تغيير عائلة رئيس الوزراء فقط ,
فالديموقراطية كما قلنا هو إختيار الشعب لحكومته , و الشعب يفاضل بين هذه الحكومة و
تلك بمقرانة برامجها الإنتخابية , و المفاضلة تكون على البرامج الإنتخابية
"التنفيذية" لا التشريعية و الرقابية , و البرامج الإنتخابية التنفيذية
تطرحها الأحزاب المنظمة ذات القدرة على تشكيل الأغلبية البرلمانية لا الأفراد
المستقلين , و المواطن الذي له "الحق" في إختيار هذه الحكومة هو المواطن
الوافي "بواجباته" الضريبية إتجاه الدولة و ليس المواطن الهوائي المتحرر
من الواجبات
لقد جربنا معايير هذا المواطن الهوائي في إختيار نوابه و
ليس في التعديلات "النصية" الجديدة ما يقنعنا بأن معايير إختيار هذا المواطن
لحكومته ستختلف عن معاييره في إختيار نوابه , نوابه المشكوك في ذممهم المالية و
السياسية و المساهمين الرئيسيين في إضعاف الكويت من الداخل و الخارج , إن الإصلاح
الحقيقي للنظام السياسي لا يأتي من خلال الإعتقاد بأن مرور الوقت كفيل بنضوج و
تطور الثقافة السياسية للناخب , و لا يأتي من خلال إيهام النفس و الآخر بأن إجتماع
الأغلبية الجاهلة على شيء يزيد من صلاحيته العامة
و لا تأتي أيضاً بالبحث عن الحلول الترقيعية و العلاجات
السطحية للأورام الإستئصالية , فما هي الحلول التي لا تستطيع الحكومات الحالية
تطبيقها و ستستطيع الحكومة المنتخبة تطبيقها لعلاج مشكلة البيروقراطية و سوء
الخدمات في المرافق الحكومية ؟ هل ستتجرأ هذه الحكومة على وضع معايير حقيقية
لتقييم الموظف الكويتي و الإستغناء عن خدمات الآلاف منهم ؟ هل ستتجرأ هذه الحكومة
على طرح حلول حقيقية لتنويع مصادر الدخل كخصخصة القطاعات الخدمية و فتح البلاد
أمام المستثمر الأجنبي و توفير البيئة المناسبة له عملياً و إجتماعياً ؟
كيف ستزيد هذه الحكومة نسبة
الحرية التي يتمتع بها الإنسان في هذا البلد ؟ نعم أتكلم هنا عن حرية الإعتقاد و
العبادات و إقامة دور العبادة و الإحتفال بالمناسبات الشرقية و الغربية و إحياء
الفنون الموسيقية و المسرحية و فتح المجال للكتب و الكتاب للكتابة و البحث في شتى
المجالات الفلسفية و الدينية و التاريخية ؟ الخلل الذي نعاني منه يا فيصل أعمق من أن
يصلحه زيادة عدد نواب و حصول الحكومة على موافقتهم , الخلل اليوم أقرب إليك من نفسك
, تدور حوله و يدور حولك , فإن كنت لا تراه فتلك مصيبةٌ , و إن كنت تراه و تتهرب
من مواجهته فالمصيبة أعظمُ
3 comments:
السلام عليكم..
أحييك عزيزي على هذا السرد الرائع والمنطقي، ونعم للأسف واقعنا أننا لا نستطيع مجابهة مشاكلنا الحقيقية فنسعى -عبثاً- للقيام بعمليات "مكيجة" لمشاكلنا كي نسقط عن أنفسنا التكليف المناط بنا للإصلاح.. والواقع أننا نكذب على أنفسنا ليس إلا..
أردت فقط أن اُضيف نقطة اُدرك أنك طرحتها لكن لا مانع من الإسهاب..
بسبب فقدان هذه الواجبات الوطنية المناطة بالمواطن، فإن الفرد في مجتمعنا يبدأ بتغيير سلّم أولوياته في أداء التكاليف.. فـ لأنه لا يحس بالتكليف والواجب الوطني بسبب كونه مواطنا "هوائيا" حر غير مكلّف وطنيا، فإن هذا المواطن يبحث عن تكاليف أخرى يؤديها وإن كانت أقل أهمية، وهذه نراها واضحة في مفرزات الإنتخابات.. المواطن يختار قبيلته وطائفته لإحساسه بالواجب تجاههم كونهم كجماعة أدوا له حقوقا كتقبله بينهم اجتماعيا وإعطاءه قيمة أعلى في محيطهم من تلك التي يحصل عليها بالمجتمع، والذي -نظريا- يساويه بباقي المكونات..
هنا معادلة الحقوق والواجبات نفسها، ولكنها مُوجهة باتجاه الإنتماء الجزئي لا الإنتماء الوطني الشامل، والخلل يقبع كله كما ذكرت عزيزي، أن المواطن الذي لا يؤدي واجباته الأساسية تجاه وطنه، لا يحس بأهمية الواجب اللاحسي والوطني متمثلا هنا بإنتخاب أعضاء مجلس أمة كقيمة عليا، وحتى في محافظته على نظافة البلد كقيمة أدنى.. وقس على ذلك العديد من الأمثلة..
الخلاصة، "مال عمّك ما يهمّك".. إحساس المواطن بأن إدارة البلد حقا مطلقا دون مقابل يدفعه هو، تجعل من السهل عليه أن يبذّر ويسرف فيها على رفاهياته اللحظة دون النظر إلى تأثيرها على المدى البعيد.. ويكفي كمثال أن كل مرشح يدخل أمن الدولة.. يخرج منها عضوا في مجلس الأمة.. حتى لو كان من النوع "اللي ما تسرحه مع صخلة" .. فما أدراك بتسريحه مع مقدرات الدولة!
عذرا على الإطالة.. وتحية خالصة..
موضوع الحكومة المنتخبة ورئيسها الشعبي أضحكني بقدر ما آلمني .مضحك لأننا نرى مخرجات إنتخاباتنا ومؤلم أن نوابنا لايدركون ذلك.كتبت بسخرية ثلاث بوستات عن
أول رئيس وزراء شعبي
http://t7l6m.com/2012/04/26/%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D9%88%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A/
وأول حكومة منتخبة
http://t7l6m.com/2012/04/28/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%89/
وأخيرا وزراء الوزارات السيادية الشعبيين(الداخلية والدفاع والخارجية)
http://t7l6m.com/2012/04/30/%d8%b4%d8%b9%d8%a8%d9%8a%d9%8a%d9%86-%d9%88%d8%b2%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%af%d8%a9/
اقترح عنوانا اخر حتى يكون المقال بلا مجاملة
كفانا نفاقا ... و كفاكم تسترا
نلعب عالمكشوف .. مو آحسن !!!!
Post a Comment