من النادر جداً أن أقوم بنشر مقال لم أكتبه في هذه المدونة , لي عادة في الإشارة إلى مقال جيد في مكان آخر من خلال وضع رابط المقال , إلا أن نشره كاملاً لم يحصل طوال الثماني سنوات الماضية إلا مرة أو مرتين .
بعد أزمة المناخ بدأت جريدة الوطن في نشر مقالات على الصفحة الأخيرة بقلم كاتب أطلق على نفسه إسم "كويتي عتيج" , و على ما أذكر كان هذا الكاتب يكتب مقالات عنيفة اتجاه أزمة المناخ و أحداثها مرتكزاً على قاعدة أساسية و هي أن التثمين الذي حصل في الخمسينات هو المناخ الأول , و أن مناخ الثمانينات هو المناخ الثاني , و أتذكر جيداً بأن مقالات كويتي عتيج أثارت الكثير من ردود الأفعال و كان الكتاب يردون عليه بشكل دائم .
قبل سنوات التقيت بالدكتور غانم النجار و تحدثنا بشكل عابر عن الثمانينات فأسر لي بأنه هو "كويتي عتيج" !! و أنه توقف عن هذه السلسلة بعد أن وصلت ردود الأفعال عليها إلى المرحوم الشيخ سعد العبدالله , اليوم أنشر هنا مقالة لا أعرف من الذي كتبها لكنه لقب نفسه بـ"كويتي مخضرم" و هي رد شامل و كامل على مقالات كويتي عتيج .
قرأت هذه المقالة للمرة الأولى في مدونة الزميل فرناس و أنشرها اليوم في مدونتي لأنني أعتبرها من أفضل ما قرأت في الصحافة الكويتية خلال الخمسة و عشرين سنة السابقة .
هي مقالة ترد على نستلوجيا كويت الماضي الجميل ...كويت التلاحم و الفريج ...كويت الغوص و البحر...هي مقالة تفصل بين الواقع و ما تخزنه ذاكرتنا عن هذا الواقع
بقلم: كويتي مخضرم
جريدة الوطن الكويتية، السبت، 28 ديسمبر 1985
الوقوف على الاطلال وبكاء الماضي
والتحسر على العصر الذهبي، عواطف انسانية شائعة قد لا يعادلها في الانتشار والشيوع
بين بني الإنسان إلا الخوف من المستقبل والوجل من المجهول وعدم الثقة بالغرباء.
وليس من المستغرب في مجتمع كمجتمعنا، يمر في فترة تغيير جذرية سريعة يختلط فيه
الحابل بالنابل وتتغير فيه اللهجه واللباس والسحنات وعادات الطعام وبلدان الدراسة
والاصطياف بين عشية وضحاها، أن تبرز هذه العواطف والأحاسيس وأن تعبر عن نفسها
بمظاهر شتى أدبية وفنية بل وحتى تشريعية. وهكذا فإن من الطبيعي أن تتتابع على
اذاننا أصوات الباكين والنائحين وطالبي العوده إلى الماضي المجيد من كل حب وصوب.
ولا أجد غضاضة في القول أن الكثير منا لم يكن يقدر ازاء هؤلاء الا التعاطف معهم.
إذ لا ريب أننا عندما نفقد الماضي، المادي والمعنوي، نفقد كلنا معه شيئاً من النفس
والشخصية، شيئاً من المتعة، شيئاً من الإحساس بالملكية والقيمة، وشيئاً من الشعور
بطمأنينة الإنتماء. وبقدر ما اقترب حديث المتكلمين عن الماضي من تأكيد هذه المشاعر
بقدر ما يزداد شعورنا بالتعاطف. هكذا مثلاً كانت الحالة مع “كويتي عتيج” فلقد كان
حديثه عن الماضي أشبه بحديث أصدقاء الطفولة حين يجتمعون بعد عهد طويل ليجتروا
أحاديث الماضي، فلا تسمع بينهم إلا رنين الضحكات الصافية ولا ترى إلا الوجوه
الحبيبه التي كبرت وشاخت معك ولا تشعر الا بنعومة ودفء الاحساس بالمألوف الذي
تفهمه ويفهمك.
ولكن في كلتا الحالتين، نواح
الباكين على الماضي ولقاء أصدقاء الطفولة، يجب ألا يغيب عن بالنا أن الجميع في مثل
هذه المواقف يمارس نوعاً صارخاً من الإنتقائية. ففي غمرة الأحاسيس الجياشة، إذ أن
الموقف أساساً موقف عاطفي، لا يطفو إلى السطح إلا عاطفة واحدة هي عاطفة الحنين
المشبوبة، فتغطي على العقل وتفرض عليه نوعاً من إعادة الترتيب والتنظيم، فتمحو منه
كل ما يكدر الخاطر ويعكر البال ويثير التساؤلات، ولا تجلب إلى سطح الذاكرة إلا ما
يسر الروح ويشعر النفس بالرضا والطمأنينة. والانتقائية على كل حال ليست بالشىء
المستغرب بل هي من صلب الممارسات الإنسانية، فالماضي لا يسجل نفسه على صفحات
أذهاننا بل نحن الذين نسجله، وويل للنفس لو لم تكن لها القدرة على النسيان. مثل
هذه الانتقائية أيضاً ليست بالشىء المستهجن عندما تستخدم عند مخاطبة الجمهور في
العديد من الأعمال الأدبية والفنية التي تتحدث عن الماضي، سواء من خلال معالجة
تجربة شخصية أو تجربة عامة. بل إن عيوب الأدب الإنساني من ملحمة جلجامش مروراً
بالمعلقات وتغريبة بني هلال ومسرحيات شكسبير وانتهاءً بأفلام أكيرا كوراساوا ما هي
الا تأملات في الماضي مغرقة في الانتقائية والذاتية.
ولكن الأمر يختلف عندما يتحول
الاستعراض الانتقائي للماضي الى مقدمة مُسلم بصحتها يتبعها دعوة للعودة إلى ذلك
الماضي أو إعادته الى الحاضر. هكذا مثلاً حال السلفيين من القوميين أو الدينيين،
الذين يذكرون اليرموك ويتناسون مرج راهط، يذكرون نهاوند وينسون صفين، يذكرون بدراً
وينسون وقعة الحرة، يتحدثون عن الفيء ويغفلون ذكر الجزية والسبايا وجموع الفلاحين والنبط
“واقفين في الشمس مثقلين بالأغلال يصب رجال صاحب بيت المال عليهم الزيت الحار”،
يكتبون عن دار الحكمة ويغفلون ذكر محنة خلق القرآن، يطربون لـ “لولا النسيم
لذكراكم يؤانسني” ولا يريدون أن يعرفوا كيف أنتهى الحلاج، يتغنون ببطولات سيف
الدولة ويمحون من الذاكرة هروب بني حبيب إلى بلاد الروم، يقذفون الغرب بترجمة بعد
ترجمة لتهافت التهافت، ولا يقولون كم نسخة من الكتاب احرقت في الساحة العامة
بقرطبة.
هكذا كان حال أخينا “كويتي عتيج”
الذي طلع علينا اخيراً بالنهاية المنطقية للفكر السلفي. إذ مع اليأس المطلق من كل
شيء على المستوى العام والانكماش على الذات والهيام بالغيبيات واستبدال الخيالي
بما هو واقعي وحلول التمني مكان الفعل. في مثل هذا المناخ لابد أن ينحسر البعد
الإنساني والفكر الإنساني من كل دعوة عامة، وتتحول كل هوية ذاتية الى دعوة سلفية.
فمن السلفية الإسلامية إلى السلفية السنية إلى السلفية الشيعية إلى السلفية
الحنبلية إلى سلفية جماعة فلان وفلان وفلان، ومن المد القومي إلى السلفية
الشوفينية إلى السلفية الفرعونية إلى السلفية القبطية، ومن السلفية الفينيقية إلى
السلفية المارونية. وما دام الكل يريد أن يعود إلى الفردوس المفقود، فلم لا أن
نطلب ككويتيين العودة إلى كويت ما قبل النفط الذي فقد فجأة كل سلبياته ومشاكله
وتحول إلى بيت العز والهناء والإنتاجية؟ وهكذا أثرى مسامعنا “كويتي عتيج” خلال
العام المنصرم بمقالاته القصيرة التي تبشر بالسلفية الكويتية.
ولكن ما يلفت النظر في هذا
المجال هو أن سلفية ” كويتي عتيج” هي سلفية من نوع طريف يعطي بعداً جديداً للرؤية
الانتقائية للماضي التي تميز الفكر السلفي، ويستعمل لغة جديدة قد لا يستعملها
غيره. فهو لا يكتفي بالتغني باخلاق الأسرة الواحدة وترابط الفريج ورجولة رجال
الغوص وانوثة نساء بيوت ” الفرش” والطين، بل يعزز مقدماته بالوثائق والمصادر
التاريخية وهو يستخدم في اطروحاته النماذج المثالية لماكس فيبر ويتحدث عن هيكلية
تالكوت بارسونز ويؤمن ايماناً قاطعاً بوظيفية رادكليف براون. ولكن كل الطلاء
الأكاديمي ومحاولة ادخال الاتزان والموضوعية لا تخفي حقيقة الصورة التي يحاول
“كويتي عتيج” رسمها، صورة مغرقة في الذاتية تم انتقاء ظلالها وألوانها في غمرة
احساس طاغ بفقدان الهوية والشخصية. ولو كان “كويتي عتيج” يكتب لنفسه أو كان يكتب
أدباً أو شعراً لكان ما يكتب حرياً بأن يثير الإعجاب والتعاطف. ولكنه في الواقع لا
يكتب كذلك، بل يدعي أنه يكتب فكراً يريد منا أن نصغي له وأن نأخذ ما يقول مأخذ
الجد ونحاوره فيه. وهو يريد منا كذلك، مثل بقية السلفيين، أن نعيد تقويم سياستنا
واتجاهاتنا وتصرفاتنا وفقاً لما يدعي أنه التصوير الحقيقي لكويت فقدناها أو نوشك
على فقدها. ولقد كنت من الأشخاص الذين أخذوا ما يقول مأخذ الجد ولقد آن الأوان لأن
أساهم في تحويل مونولوجه الحالم الى حوار فيه بعض الجدية. وسوف أختار لذلك أن أعود
لذاكرتي الشخصية لكي أقوم بادخال بعض التفاصيل والظلال على الصورة التي يحاول أن
يرسمها. فالواقع أن كل حديث “كويتي عتيج” وأمثاله لا يمكن أن يطمس من قلبي شعوراً
حقيقياً بالألم والمعاناة التي كانت من نصيبي في تلك الفترة كما كانت من نصيب
الغالبية العظمى من النساء والرجال والأطفال الذين عاشو ذلك العصر. المعاناة التي
وإن كانت تبدو في بعض الأحيان ألماً شخصياً إلا أنها في حقيقة الأمر لا تعدو كونها
إفرازاً طبيعياً عاماً لظروف تلك الفترة واحوالها المتمثلة بالفقر والجهل والقهر
الاجتماعي الذي كان يسود علاقات الناس في ذلك المجتمع على كل المستويات. فكل
الطنين الأكاديمي لا يمكن أن يخفي العوز وسوء التغذية وانتشار الأمراض واستغلال رب
العمل للعامل والرجل للمرأة والكبير للصغير والمالك لمن لا يملك. ولا يمكن لأي
باحث جدي حتى “كويتي عتيج” أن ينكر ذلك. يكفيه الاستماع لأحد النواخذة وهو يتحدث
عن كيفية استئجار البحارة وكيف يمنعون “النجري واللي يتكلم واجد واللي يخرّب
البحرية” من العمل، وعن طريقة سداد الديون بعد وفاة البحار، أو أن يحاول دراسة
العلاقة بين فرص التعليم المتاحة للفرد والمستوى الاقتصادي للعائلة أو غير ذلك من
المواضيع.
ولكن الموقف ليس موقف نقاش
أكاديمي، اذ أن كتابات “كويتي عتيج” هي أساساً كتابات ذاتية انطباعية انتقائية
والرد عليها يجب أن يكون من نفس النوع. واعتقد أن خبرتي وخلفيتي تؤهلاني لممارسة
مثل تلك الكتابة. فلقد عشت عصرين، ولدت في أول الأربعينات ونشأت في الخمسينات، ولا
تزال صور كويت ما قبل النفط واضحة في ذهني. أكاد أسمع الآن أصوات تلك الكويت، “شط
شط”، “زري عتيج صفر عتيج”، ثغاء الماعز وهي تـئن تحت عصا الشاوي، صخب الأطفال في
تلك الأزقة الضيقة المتربة وصياح الكبار “عند العاير”، ولا تزال أنفي تمتلىء
بروائح ذلك العهد، “الصل” على السِيف، “الجت” منثور في “الحوش”، “القداوة” في
قهاوي السوق وقدر “راعية الباجلة”، ولا يزال طعم الجراد المسلوق طرياً في فمي. وان
كانت ذكريات “كويتي عتيج” أو “السوالف” التي سمعها، فهو لا يفرق بين الأثنين، تفتح
له طاقة ليلة القدر، فإن تلك الذكريات تمتزج في ذهني بالألم والمرارة، ألم مراقبتي
لأمي وهي تموت، يقطع أحشاءها التيفوئيد وهي مستلقية تحت العريش يأكلها الذباب
ويعتصرها هواء الصيف المشبع بالرطوبة، لا يخفف عنها ألمها وعود الوالد بأن “باكر
يدور شمال” ولا تأكيد صويحباتها بأنه “أجر وعافية”، تذوي روحها مع كل قطرة دم
تتبرزها. ومرارة الإحساس بالقلق الذي يجتاح الأطفال الذين يشعرون شعوراً غامضاً
بأن طعام الغد ليس بالشىء المضمون، وأن ثياب العيد الجديدة أمر مشكوك فيه. كنا
عندما لا يعمل الوالد، وما أكثر أيام بطالة الوالد، فلقد كان يرحمه الله واحداً من
حرفيي “كويتي عتيج” الأبطال الذين راودتهم أحلام الثروة يوماً فمارس التهريب ليفقد
كل ما يملك ويعود أجيراً عند الغير. أقول عندما كان الوالد لا يعمل، كنا لا نعلم
أن كنا سوف نتعشى تلك الليلة ام لا، فكل شيء كان يتوقف على كون “عميل ابوي” في
السوق سوف يرضي أن يبيعه بالدين ما قد يكون قد تبقي لديه آخر النهار. وعندما أصر
الإخوة الكبار في أحد الأعياد أن يلبسوا ثياباً جديدة لم يجد الوالد بداً من بيع
“الصخلة” التي يشرب من حليبها الأخوة الصغار لكي يستطيع شراء تلك الثياب.
ولم يكن حالنا بالأمر الغريب
فلقد كان هكذا حال الغالبية العظمى من الناس تلك الأيام، في هذا البلد الذي شحت
فيه الموارد وسيطر عليه الركود والتخلف والاستغلال. ولم يتغير هذا الوضع بالنسبة
لتلك الأغلبية إلا مع ظهور النفط وبداية الانفاق الحكومي سواء عن طريق التثمين أو
التوظيف واتاحة فرص العمل والعلاج والدراسة لكل المواطنين. تلك الممارسات التي
حسنت ظروف المعيشة بالنسبة لقطاع واسع من المواطنين وغيرهم ممن وفد إلى هذا البلد.
وهنا يجب أن أسارع للقول أن تلك الممارسات لم تكن كلها خيراً وبركة، بل كان لها
بعض السلبيات والآثار السيئة التي يجب أن يشار إليها وأن تتم مناقشتها بجد
وموضوعية. وليكن ذلك في اطار صورة متكاملة من تعداد السلبيات والإيجابيات. أما
عندما يأتينا أحدهم لينوح علينا انشودة السلف الطاهر الذي يجب أن نعود إلى مثله
والمجتمع المثالي الذي يجب أن نعود اليه فلا نملك الا أن نقول له:
لتذهب الى الجحيم يا أخي انت وكل
النوستالجيا التي زرعتها في نفسك سنوات الغربة وكتابات الان فيليرز وديكسون وكوكس
وبكرات المايكروفيلم في دار الوثائق العامة التي لم تفلح الا في خلق سلفي اخر حليق
اللحية طويل الدشداشة. لتذهب إلى الجحيم يا أخي أنت وكل أحلامك الاستمنائية عن
كويت ما قبل التثمين، كويت الانتاجية والكفاءة الذاتية، كويت الحرفيين، كويت
الكنادرة الذين يبدو أنك نسيت أو تناسيت أن بنت الأجاويد كانت ترفض ان تلبس
العباءة امامهم. كويت أهل الصخر الذين لو رأيت أقدامهم المتقرحة أو شممت إزار واحد
منهم لعافت نفسك الطعام طويلاً. كويت الحدادين الذين ما أن يبلغ أستاذهم الاربعين
حتى يعود الى الكور أعمى. كويت الغواصين الذين يعدون المواسم حتى اصابتهم بالصمم.
كويت الخياطين والحاكة الذين أكلت عيونهم الإجهاد والتراخوما. كويت البحارة الذين
أكلت ديدان وعلق مستنقعات الجندل في شرق أفريقيا اطرافهم، وأكلت مستلزمات تهريب
الذهب إلى الهند ما تبقى من كرامتهم. أم أن هذا كله تفاصيل تافهة لا يجوز أن نسمح
لها بتشويه تابلوه المجتمع الانتاجي المترابط .
كويتي مخضرم
3 comments:
مقال يكبح الأوهام كبحا شديدا دون هوادة
شدني قلمه الرشيق، شكرا على النقل بوسلمى ، أذا عندك أي معلومات اضافية عن الكاتب فأرجوك شاركنا بها
رد مهم يعري الرومانسية الكويتية/العربية الحالمة بالماضي الجميل
Post a Comment