Wednesday, October 05, 2016

محاضرة محمد اليوسفي في منصة ’’تكوين‘‘ - معرفة الإيمان والإيمان بالمعرفة

الإيمان والمعرفة


توضيحات حول المحاضرة

التوضيح الأول
-1-
موضوع اليوم هو
الإيمان والمعرفة
أو
كيف أن
’’معرفة‘‘ الإيمان
ستساهم في الوصول إلى
’’الإيمان‘‘ بالمعرفة

موضوعنا اليوم يندرج تحت خانة المواضيع
’’الفلسفية‘‘
وليس المواضيع
’’الدينية‘‘
(وذلك حتى لا نُتَهم بأننا أقحمنا أنفسنا في مواضيع دينية لا نفقه فيها)
مع التشديد على أننا هنا سنتعامل مع
’’الفلسفة التطبيقية‘‘
(الفلسفة البسيطة، Level 1، فلسفة سقراط)
وليس
’’الفلسفة التنظيرية‘‘
(فلسفة هيقيل وسبينوزا وكانت)
التي لا أفهمها !!

أي أننا سنأخذ من ’’الفلسفة‘‘ ما يمكننا تطبيقه في حياتنا اليومية
وليس
التعمق الفلسفي التنظيري الذي يُطوِّرنا فكريا
(بلا شك)
لكنه قد لا ينعكس على ممارساتنا الحياتية اليومية بالضرورة

(وذلك لأن التعمق الفلسفي قد يلغي فكرة وجود المعرفة والحقيقة)

-1-
لماذا الحديث عن الإيمان؟

قد يتسائل البعض
لماذا يناقش محمد اليوسفي اليوم موضوع
’’الإيمان‘‘
وحتى أجيب على هذا السؤال
أقول بأن ما جعلني أطرح هذا الموضوع
هو رؤيتي بأن في عالمنا اليوم
(وفي السابق أيضا)
أصبح الاختلاف بـ ’’الإيمان‘‘ أو ’’الإيمانيات‘‘
سببا رئيسيا في بث الخلافات بين
الأصدقاء
والأقرباء
والأحباب
والطوائف
والأديان
وحتى الدُوَل

فالاختلاف بالإيمانيات
ممكن أن يتسبب في طلاق زوجين..
أو
انفصال حبيبين
أو
الحرب بين دولتين

ولذلك
أصبح لدي فضول في فهم
’’ماهية الإيمان‘‘
وكيف تتمكن الإيمانيات من التغلغل في
أعماق أعماقنا
النفسية والفكرية
إلى المدى الذي تجعلنا فيه مستعدين
للتضحية بـ
علاقاتنا الاجتماعية
ومُتعتنا الحياتية
وأعضائنا الجسدية
وأرواحنا
من أجل الحفاظ على هذه الإيمانيات
وعدم اهتزازها
؟؟

أمثلة على الخلافات الإيمانية
الحرب في سوريا والعراق واليمن
قتل ناهض حتّر في الأردن
آمنة بوادير وجامعة الملك سعود



-2-
ما هو الإيمان؟
ولماذا يحتل هذه الأهمية في حياتنا؟

هذا العالم... وهذه الحياة...
مليئة بالألغاز والأسئلة التي لم يتمكن الإنسان من الإجابة عليها
ولذلك
ومنذ تكون
المجاميع البشرية الأولى
وتطور أساليب التواصل بين أفرادها
بدأ الإنسان في طرح العديد من الأسئلة
على نفسه وعلى من معه
وتدور أغلب هذه الأسئلة حول
ثلاثة تساؤلات ’’وجودية‘‘

التساؤل الأول
من أين أتى هذا العالم؟
ومن أين أتينا؟
من أين جاء هذا العالم؟
من خلقه؟ ولماذا؟
ما هو سبب وجودنا هنا؟
هل هذا العالم هو الوحيد أم هناك عوالم أخرى؟
ماذا هناك في هذه النجوم التي نراها في الليل؟
لماذا تحدث الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات؟
أين تذهب الشمس في المساء؟
وأين يذهب القمر في النهار؟

التساؤل الثاني
كيف نعيش ونتعامل مع تحديات الحياة؟
نحن هنا!! فكيف نعيش!؟
كيف نتعامل مع الآخرين؟
كيف نتقاسم الأدوار في المجتمع وفي المنزل؟
كيف ندير صراعاتنا وخلافاتنا مع الآخرين؟
ما هو الصح والخطأ؟
وما هو الخير والشر؟

التساؤل الثالث
أين سنذهب بعد الموت؟
أين سنذهب بعد الموت؟
أين ستذهب أرواحنا بعد الموت؟
هل سنعود إلى هذه الحياة؟
هل هناك أي نوع من أنواع الثواب والعقاب على أعمالنا في هذه الحياة؟
أم أننا سـ نفنى ونتلاشى في هذا الغبار الكوني؟

(قصة قابيل وهابيل والدفن والغراب على سبيل المثال)

وبطبيعة الحال
بذل الإنسان القديم جهودا كبيرة في البحث عن إجابات شافية
عن هذه الأسئلة الوجودية
وتصدى للإجابة عليها الآلاف
من
العلماء
والمفكرين
والفلاسفة
أيضا
جاء الرسل والأنبياء للإجابة على هذه الأسئلة الوجودية
ونجح هؤلاء في وضع إجاباتهم عن هذه الأسئلة في
’’منظومات إيمانية‘‘
تلتصق في بعضها البعض لتُكَوِّن ما نعرفه اليوم
بـ ’’الأديان‘‘

وقد نجحت هذه ’’المنظومات الإيمانية‘‘ أو ’’الأديان‘‘
في تخدير ’’القلق الوجودي‘‘ للإنسان
من خلال تقديم إجابات
كافية... ووافية
ومُفصلة... ودقيقة
ومنطقية... ومريحة
ومُقنعة
عن كل تفصيل من تفاصيل هذه الأسئلة الوجودية
وبالتالي
قدمت للإنسان
صورة
واضحة
ومريحة
 ومتكاملة
لهذا العالم والحياة

فالأديان وإيمانياتها
تعطينا الإجابة
عمّن خلق هذا الكون
ولماذا خلقنا
وكيف يريدنا أن نعيش
وما هي الجائزة التي سنحصل عليها إن التزمنا بتعاليمه
(الجنة)
وما هي العقوبة التي سنعاني منها في حال عصياننا لتعاليمه
(النار)



وهذا ما يُفسِّر
سبب الأهمية الكبيرة
التي تحتلها الإيمانيات في حياتنا اليومية
فهي تؤثر في
أسلوب حياتنا
وقراراتنا المصيرية

فالإيمانيات تحدد لنا
متى ننام... ومتى نستيقظ من النوم
من نتزوج... ومن لا نتزوج
ماذا نأكل... وماذا لا نأكل
ما هو المسموح
(الحلال)
وما هو الممنوع
(الحرام)

وبسبب هذا الارتباط الوثيق
بين أغلب أنشطتنا الحياتية وإيمانياتنا
فمن الطبيعي
أن تحتل هذه الإيمانيات هذه المكانة المهمة في حياتنا
ومن الطبيعي
أن نُقاوم
بشكل إرادي أو لا إرادي
أي محاولة
أو حادثة
أو موقف
أو شخص
يطعن أو يشكك أو يختلف أو لا يعترف
بهذه الإيمانيات!!

فـ أي تشكيك
أو طعن
أو عدم اعتراف
أو اختلاف
مع أي جزء من أجزاء منظومتنا الإيمانية
يعتبر بمثابة ’’نسف‘‘ كامل لأسبابنا ’’الوجودية‘‘
ولذلك نحن نتخذ مواقف
’’هجومية‘‘ و’’دفاعية‘‘ حاسمة
تجاه كل من يختلف معنا في الإيمان
أو يحاول تغيير إيمانياتنا

وهذا قد لا يكون
من باب ’’التعصب‘‘ و’’التطرف‘‘ فقط
لكنه من باب الحفاظ على
أماننا واستقرارنا الوجودي

على سبيل المثال
لو سألت أحدكم
لو تمكنت من نسف فكرة وجود الجنة والنار أمامك
فهل سيتغير أسلوب حياتك
ونوعية قراراتك المصيرية
في هذه الحياة!؟
(الإجابة نعم في أغلب الأحيان)

إلى هذه اللحظة
وكل ما قلناه أمر طبيعي
فأين المشكلة؟

الإجابة هي
أن المشكلة تأتي عند البحث في مسألة
’’ماهية‘‘ الإيمان

فما هو ’’الإيمان‘‘
الذي تُكوِّن وِحداته ’’المنظومات الإيمانية‘‘
التي تُكوِّن بدورها ’’الأديان‘‘؟

عند البحث عن إجابة على هذا السؤال
ستحصلون على الكثير من التعريفات والشروحات
حول ’’الإيمان‘‘ وأنواعه ومنطلقاته
لكن تعريفي الخاص للإيمان هو أن
الإيمان مرحلة متقدمة من الاعتقاد
والاعتقاد مرحلة متقدمة من الظن
والفرق بينهم يُقاس بدرجة التأكد أو اليقين


وبالتالي
فإن ما يُسيطر على
حياتنا اليومية
وقراراتنا المصيرية
ومشاعرنا العاطفية
هي مجموعة من المعتقدات والظنون!!

-3-
هل يستحق ’’الإيمان‘‘ هذه الأهمية؟

بعد الاتفاق على أن الإيمانيات في جذورها هي
’’معتقدات‘‘
وأن المعتقدات في جذورها هي
’’ظنون‘‘
لا بد أن نسأل أنفسنا
هل يستحق هذا ’’الإيمان‘‘
(الذي هو في جذوره ’’معتقدات‘‘ و’’ظنون‘‘)
كل هذه المكانة المهمة في حياتنا؟

للإجابة على هذا السؤال
علينا التعمق في مسألة ’’الحرية الشخصية‘‘
وأحقية كل منا في برمجة مكنوناته النفسية والفكرية

ويمكننا هنا تقسيم حياة الإنسان إلى قسمين
القسم الأول
يعيشه الإنسان في ’’خلوة‘‘ مع نفسه
(والتي يفترض أنه لا يؤثر فيه على الآخرين)

والقسم الثاني
هي الفترات التي يقضيها الإنسان بالتعامل مع الآخرين
(والتي يكون لها تأثير مباشر على الآخرين)

وبطبيعة الحال
فالإنسان لديه ’’الحق الكامل‘‘
في تحديد مساحة الإيمانيات التي تؤثر عليه
في القسم الذي يقضيه
في خلوة مع نفسه
دون أي تأثير على الآخرين
(ملاحظة أن الخلوة لا تعني بالضرورة عدم التأثير على الآخرين)
فهو حُر في
عدد الصلوات
التي يريد أن يُصليها
أو أيام الصيام
التي يريد أن يصومها
أو حتى إيمانه بالتبرك
بهذا المقام أو ذاك
وهذا الدعاء
أو تلك الآية

وليس من حق الآخرين أن يتدخلوا في هذه المساحة الإيمانية لسببين
الأول
أن مساحة هذه الإيمانيات
تعتمد على ’’التجربة الشخصية‘‘
التي لا تحتاج إلى إثبات للآخرين
(كالتبرك بالأضرحة لعلاج الأمراض)

الثاني
أن المعني بالأمر يمكنه الرد على أي تطفل أو تدخل من الآخرين بكلمة
’’وانت شكو!!‘‘

لكن هذا الحق
وهذه الحرية
في تحديد المساحة الإيمانية
تصبح خاضعة للبحث والنقاش والأخذ والرد
في القسم الثاني من حياة الإنسان
التي يقضيها في التعامل مع الآخرين والتأثير عليهم
وذلك لسبب رئيسي وهو أن
مساحة الإيمانيات التي يؤمن بها الشخص
ستؤثر على الآخرين في هذا القسم
وبالتالي يصبح من حقهم
التدخل فيما سيؤثر عليهم
مثال
(الصلاة في العمل، القتل بسبب اختلاف الإيمان، فرض الصيام على الآخرين)

-4-
مساحة الإيمان

وبالتالي
فإن ’’مساحة الإيمان‘‘
(الذي هو في جذوره ’’معتقدات‘‘ و’’ظنون‘‘)
تصبح خاضعة للنقاش
في الجزء الذي يكون له تأثير وانعكاس مباشر على الآخرين

وبسبب ما يشهده العالم اليوم من
صراعات دامية للإيمان دور كبير فيها
وبسبب ما تفجره الاختلافات الإيمانية من
خلافات واعتداءات بين الناس
برز على الساحة الفكرية صوت (جديد نسبيا) لفريق ما يُسمى
بالـ New Atheists
أو
’’الملحدين الجدد‘‘
وهم يعتقدون بعدم حاجة الإنسان إلى الإيمان
وبالتالي يدعون إلى تخلي الإنسان عن
الأديان والإيمانيات
وهم يقومون بهذه العملية بمواجهات صدامية مع المؤمنين
فالإيمانيات بالنسبة لهم خُرافات
والأديان عندهم من صنع البشر
وبالتالي فالحل لكل ما نعيش فيه من صراعات إيمانية
هو
0% إيمان


وبطبيعة الحال
لم يقبل المؤمنون بهذه النظرية
ووصفوا أصحابها بالزنادقة والكُفار
واشتعلت الحرب (الفكرية) بين الطرفين
طرف يرى بأن الحل في 0% إيمان
وطرف يراه في 100% إيمان
وأصبحت جماهير كل طرف تتعصب وتتطرف لفريقها

وبما أننا لا نرى الحل
في 0% إيمان
ولا
في 100% إيمان
حيث أن
’’الإلحاد الصادق‘‘ يتحول تدريجيا
إلى ’’إيمان صادق‘‘
وخطورة ’’الملحد الصادق‘‘
لا تقل عن خطورة ’’المؤمن الصادق‘‘

وجدنا أنفسنا مضطرين
للبحث عن حل آخر
لمشكلة
تحديد نسبة الإيمان المناسبة في حياة الإنسان
(في القسم الذي يتعامل فيه مع الآخرين ويؤثر عليهم فيه)

-5-
معرفة الإيمان

اتفقنا في بداية الحديث على أن
’’الإيمانيات‘‘
تحتل جزء كبير ومهم من ممارساتنا اليومية

واتفقنا أيضا على أن السبب في ذلك هو
نجاح ’’المنظومات الإيمانية‘‘
في تقديم الإجابات المُطَمئِنة والمريحة
على تساؤلاتنا ’’الوجودية‘‘

وبالتالي
فمن الطبيعي
أن نشعر بالراحة والأمان النفسي
عند التعامل مع أشخاص
يشاركوننا في نفس
’’المنظومة الإيمانية‘‘
ومن الطبيعي
أن تتارجع نسبة هذا الشعور بالراحة والأمان النفسي
عند التعامل مع أشخاص
لا يشاركوننا نفس ’’المنظومة الإيمانية‘‘

والسبب في ذلك واضح وصريح
وهو أن التعامل مع من يشاركنا
’’منظوماتنا الإيمانية‘‘
يجنبنا الدخول في
خلافات
ومناكفات
وتوضيحات
تستهلك من أوقاتنا وتفكيرنا الكثير
(في بعض الأحيان)

هذا هو السبب الظاهر للمسألة
لكن هناك سبب آخر
(مخفي)
للشعور بعدم الأمان والراحة النفسية والحياتية
عند التعامل
مع أشخاص لا يؤمنون بـ’’منظوماتنا الإيمانية‘‘

وهو أن التعامل مع هؤلاء
يضطرنا دائما لمواجهة أنفسنا
بسؤال وجودي خطير وهو
’’لماذا‘‘
لماذا لا يؤمن هؤلاء بما نؤمن به!؟
هل يعاني هذا الشخص من ’’خلل‘‘ في بُنيته الفكرية
فلا يؤمن بما نؤمن به؟
هل يعاني من ’’نقص‘‘ بالمعلومات التي تمنعه
من أن يؤمن بما نؤمن به؟

أم أنه لا يعاني
من ’’الخلل الفكري‘‘
ولا ’’القصور المعلوماتي‘‘
وهو ببساطة ’’يعاند‘‘ الحقائق الواضحة
ولذلك هو لا يؤمن بما نؤمن به!؟

وفي كثير من الأحيان
يصل المؤمن إلى نتيجة ’’مُرة‘‘
وهي أن أيا مما سبق
لا ينطبق على الآخر
الذي لا يؤمن بـ’’منظومته الإيمانية‘‘

ففي كثير من الأحيان
يكون الآخر إنسان
عاقل ورزين وخلوق ومُطّلِع
وهو لا يؤمن بما نؤمن به ببساطة لأنه
غير مُقتنع !!

وهذا ما يجعل المؤمن يدخل في جولة أخرى
من المواجهات الذاتية
فيقف أمام نفسه ويسأل
إذا كان الآخر
(العاقل والرزين والخلوق والمُطلع)
لم يقتنع بـ’’منظومتي الإيمانية‘‘
إذا
لماذا أقتنع أنا بها وأؤمن!؟
هل المشكلة فيني أم فيه!؟

في هذه اللحظة
ستنقلب مسألة إقناع الآخر بـ’’منظوماتنا الإيمانية‘‘
(التبشير)
من نشاط
ترفيهي نقوم به من باب
’’هداية الآخر‘‘
و
’’كسب الأجر‘‘
إلى نشاط
وجودي نهدف من خلاله إلى
’’تطمين النفس‘‘

فالانتصار على الآخر في معركة
’’التبشير‘‘
يعني بالضرورة أننا على حق
وأننا نقف على ’’أرضية إيمانية‘‘ صلبة
قادرة على الانتقال
بـ’’الإقناع‘‘
بنفس الكفاءة التي تنتقل فيها
بـ’’الوراثة‘‘

وهذا ما يجعلنا نكون أكثر إلحاحا وحرصا
على كسب هذه المعركة

ولكن
وفي حال خسارتنا لها
وفشلنا في إقناع الآخر
بصحة ومنطقية منظومتنا الإيمانية
واعترافنا المُسبق
بأنه (الآخر) لا يعاني من خلل
واعتقادنا الضمني
بأننا أيضا لا نعاني من مشاكل أو خلل
فلا بد لنا هنا من مراجعة العنصر الثالث في المعادلة
وهو
منظومتنا الإيمانية
فقد يكون ’’الخلل‘‘ فيها !!

والسؤال هنا
لماذا يعجز شخص عاقل مثلي عن إقناع شخص عاقل مثل الآخر بصحة
منظومته الإيمانية؟

قد يكون ذلك بسبب ما قلناه في بداية الحديث
وهو أن الإيمان
مرحلة متقدمة من الاعتقاد
والاعتقاد مرحلة متقدمة من الظن
وهذا ما يجعل الإيمانيات
غير قابلة للإثبات
بغير الأدلة ’’الإيمانية‘‘
القادمة من داخل المنظومة الإيمانية

فالدليل الوحيد على حقيقية قصة
’’الإسراء والمعراج‘‘
يأتي من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة
وهي من داخل المنظومة الإيمانية للإسلام

والدليل الوحيد
على انتقال عرش الملكة ’’بلقيس‘‘
من اليمن إلى القدس بلمح البصر
يأتي من داخل المنظومة الإيمانية للإسلام

والطريف هنا
أن قصة سليمان وملكة سبأ
تختلف باختلاف المنظومات الإيمانية
فبينما يؤمن المسلمون بأن الملكة بلقيس
جاءت من اليمن
يؤمن اليهود والمسيحيين بأنها
جاءت من أفريقيا
وهي ذات بشرة سمراء



وهنا نكون في مواجهة
سؤال مهم
مع عجزنا عن إثبات إيمانياتنا
بأدلة من خارج منظوماتنا الإيمانية
فكيف نؤكد لأنفسنا والآخرين
صحة أو حقيقية
منظوماتنا الإيمانية؟

الإجابة على هذا السؤال ستضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما

الخيار الأول
الاعتراف أمام أنفسنا وأمام الآخر
بأننا لا نملك دليل يثبت صحة أو حقيقية إيمانياتنا
من خارج منظوماتنا الإيمانية
وبالتالي
لا بأس علينا من الاستمرار بالإيمان بهذه الإيمانيات
من باب ’’الحرية الشخصية‘‘
لكننا في الوقت نفسه
نتقبل عدم إيمان الآخر بها
ولا نقوم بممارسة أي نوع من أنواع الضغط النفسي والمادي عليه
بسبب رفضه الإيمان بها

أما
الخيار الثاني
فهو قبول التحدي
والبحث عن أدلة تثبت صحة إيمانياتنا من خارج منظوماتنا الإيمانية
حتى نتمكن من إثباتها للآخرين واكتساب الحق في فرضها عليهم
!!

-6-
المعرفة

بما أن الدليل ’’الإيماني‘‘ غير كاف
لإثبات صحة المسائل الإيمانية للآخرين
أصبح علينا
إيجاد أدلة أخرى للإثبات

فالدليل الإيماني هو دليل ’’مشروط‘‘
بإيمان الشخص المُسبق بالمنظومة الإيمانية
(مثال إثبات أن المسيح ابن الله لغير المسيحي)

وبالتالي علينا البحث عن أدلة أخرى غير ’’مشروطة‘‘ بالإيمان المسبق

وحسب اعتقادي (الشخصي) بأن هناك
نوعين من الأدلة
التي يمكنها أن تساهم في إثبات الإيمانيات

النوع الأول هو الأدلة
’’العقلية المنطقية‘‘
بمعنى
إخضاع الوِحدة الإيمانية لاختبار ’’العقل والمنطق‘‘
فإن تمكنت من النجاح بهذا الاختبار
يصبح ’’من الممكن‘‘ الإيمان بها

لكن المشكلة في هذا الدليل
(العقلي والمنطقي)
هو أن العقل والمنطق يخضعان أيضا للتجربة الشخصية
والبرمجة المسبقة
وبالتالي
يكون ما هو
غير معقول لطرف
معقول للطرف الآخر
أيضا
يعاني الدليل العقلي والمنطقي من مشكلة أخرى
وهي أنه دليل ’’إثبات إمكانية‘‘
وليس الوجود أو الحدوث الفعلي

أي أن ’’فلتر‘‘ العقل والمنطق
يختبر مدى إمكانية صِحة المعلومة أو عدم إمكانيتها
ولا يختبر
هل المعلومة صحيحة أو غير صحيحة

على سبيل المثال
لو أخبرتكم بأن لدي بغبغاء يردد أسماء الله الحُسنى
فهل ستصدقونني أو لا!؟

في حال أنكم ’’تؤمنون‘‘ بأني شخص صادق
فـ ستصدقوني
بمجرد إخباري لكم بالمعلومة حسب الدليل ’’الإيماني‘‘
وفي حال أنكم لا تحملون أي إيمان مسبق بـ صدقي
فـ ستخضعون المعلومة للدليل ’’العقلي والمنطقي‘‘
بغبغاء = طائر + يستطيع الحفظ + ترديد الكلام
النتيجة هي أن نسبة كبيرة منكم
يمكن أن تؤمن بأن لدي بغبغاء يردد أسماء الله الحسنى
بناء على الدليل ’’العقلي والمنطقي‘‘
لكن هذا لا يعني بأن ما قلته صحيح
لماذا!؟

لأنني لم أثبته أمامكم !!

وهنا ننتقل إلى النوع الثاني (أو الثالث) من الأدلة
وهو
’’الدليل المعرفي‘‘
المعرفة هي القدرة على إثبات ’’الوِحدة المعلوماتية‘‘ من خلال التجربة
التي تعتمد على الحواس الخمس البسيطة ومقوياتها

وما يُميز ’’الدليل المعرفي‘‘ عن
’’الدليل الإيماني‘‘ و’’الدليل العقلي‘‘
هو أن الدليل المعرفي
لا يستفوي شرط ’’المعرفية‘‘ إلا عند
’’الإثبات‘‘

ما المقصود بذلك!؟
المقصود هو أننا وبالعودة إلى المثال السابق
(البغبغاء الذي يردد أسماء الله الحسنى)
فإن ’’معرفة‘‘ صحة المعلومة
لا تتحقق بالاعتماد على
’’الدليل الإيماني‘‘
الذي يعتمد على الثقة بالمصدر
ولا على
’’الدليل العقلي‘‘
الذي يختبر إمكانية الحدوث
بل على
الدليل المعرفي
الذي يثبت صحة المعلومة
بالتجربة الخاضعة للحواس الخمس البسيطة ومقوياتها

بمعنى آخر
أن آتي لكم بالبغبغاء الناطق
وأجعله يردد أسماء الله الحسنى أمامكم
وبالتالي
ستشاهدونه بالنظر
وتسمعونه بالأذن
وتلمسونه باليد
عندها فقط
يمكنكم القول بأننا
’’نعرف‘‘ بوجود بغبغاء يردد أسماء الله الحسنى
وليس
’’نؤمن‘‘ بوجود بغبغاء يردد أسماء الله الحسنى

هنا أود أن أتوقف عن الحديث قليلا
للقيام ببعض التجارب العملية
والتي ستوضح لنا الفرق بين
الدليل الإيماني
و
الدليل العقلي
و
الدليل المعرفي

**

التجربة الأولى
كيس + مملحة + سكر

التجربة الثانية
مقلمة + أقلام + عدد الأقلام
(إشراك الحضور في إقرار نتيجة التجربتين)


السؤال هنا
بعد أن تم إثبات وجود مادة ’’السُكر‘‘ و’’عدد الأقلام‘‘ في التجربتين السابقتين
من خلال استخدام ’’الدليل المعرفي‘‘

هل يحق لنا وصف من يُنكر هذه النتائج
بالجنون
أو الخلل
أو العناد
أو المكابرة
(مع التشديد على أنه يشاركنا في المعارف الأساسية)
؟؟

الإجابة هي نعم... يحق له ذلك!!

والآن
دعونا نختبر حدود (أو قصور)
’’الدليل المعرفي‘‘
من خلال التجربة التالية

التجربة الثالثة
شوكولاطة + Dark + Milk
(سؤال الحضور عن نوعية الشوكولاطة التي يفضلونها)


لو سألت كل منكم عن نوع الشوكولاطة التي يفضلها
فماذا ستفضلون!؟
(ينقسم الحضور إلى فريقين)

والسؤال هنا للحضور
هل يمكن لهذا الاختلاف في ’’الذوق‘‘
أن يتطور ويصل إلى مرحلة العدائية؟
وهل يحق لمن يُفضل الـ Milk Chocolate
أن يصف من يُفضل الـ Dark Chocolate
بالجنون
أو الخلل
أو العناد
أو المكابرة
؟؟

الإجابة هي لا.. لا يحق له ذلك!!

والسؤال هنا
لماذا لا يحق له ذلك؟

الإجابة هي
لأننا نتفق مسبقا على أن هذه المسألة تخضع لما نسميه
’’الاعتقاد الذوقي‘‘
أي أنها مسألة تنتهي إلى
’’التفضيل الشخصي‘‘ للفرد المرتبط
بـ ذوقه الخاص
الذي يعتمد على
تجاربه الشخصية
ولا يحق لأحد مساءلته أو محاسبته عليه
وفي حال قرر طرف
أن يفرض ’’ذوقه الاعتقادي‘‘ على الآخر
فعليه أن يقبل
بأن يفرض الآخر ’’ذوقه الاعتقادي‘‘ عليه

ولأن لا أحد يقبل
بأن يُفرض عليه ’’الذوق الاعتقادي‘‘
فسيمتنع تلقائيا
عن فرض ’’ذوقه الاعتقادي‘‘ على الآخرين

والسؤال هنا
هل يمكننا استخدام
’’الدليل المعرفي‘‘
لإثبات صحة وجهة نظر
من يفضلون الـ Milk Chocolate
على من يفضل الـ Dark Chocolate؟

الإجابة هي لا... لا يمكن ذلك!!

وبالتالي علينا أن نتفق
على أن احترام وجهة نظر الآخر
في المسائل ’’الاعتقادية الذوقية‘‘ واجب لسببين
الأول
فشل كل طرف في تقديم
’’دليل معرفي‘‘
يثبت أن ’’ذوقه الاعتقادي‘‘ أفضل من الآخر

الثاني
معرفة كلا الطرفين بأن المسائل
’’الاعتقادية الذوقية‘‘
تخضع للتركيبة الشخصية للفرد
ولتجاربه الشخصية
ولذلك لا بد من تقبل اختلاف هذا الذوق لكل منا

وقبل أن أختم هذا الجزء من المحاضرة
لا بد لي أن أشدد
على أن تقديم
’’الدليل المعرفي‘‘
لا يُثبت بالضرورة صحة النتيجة أو حقيقيتها
بل
هو يثبت صحة النتيجة وحقيقيتها
للشريحة
التي تتفق على القواعد المعرفية الأساسية
وبالتالي تستخدم نفس معايير
الاستدلال المعرفي

كالاتفاق على
الأسماء
والأعداد
والاتفاق على أن النار تحرق
وأن السِكّين تقطع
ووجود الجاذبية الأرضية
إلخ... إلخ

على سبيل المثال
الأشخاص أو الحيوانات
الذين يعانون من داء
عمى الألوان
أو الـ
Color Blindness
قد لا يقبلون ’’الدليل المعرفي‘‘ الذي يثبت لهم
بأن لون هذا الكتاب
أخضر
أو لون ذاك الكتاب
أحمر
وذلك ليس بسبب ضعف ’’الدليل المعرفي‘‘
لكن لاختلاف القواعد المعرفية بيننا وبينهم

-7-
الإيمان.. مسألة ’’معرفية‘‘ أم ’’اعتقادية ذوقية‘‘؟

الآن
وبعد الشرح السابق
للفرق ما بين
المسائل ’’المعرفية‘‘
الخاضعة لـ’’الدليل المعرفي‘‘
و
المسائل ’’الاعتقادية الذوقية‘‘
التي لا تخضع لـ’’الدليل المعرفي‘‘

علينا أن نسأل أنفسنا
إلى أي فئة من هذه المسائل تنتمي المسائل ’’الإيمانية‘‘؟

للإجابة على هذا السؤال
علينا اختبار
الوِحدات الإيمانية
والبحث في إمكانية إخضاعها لـ’’الدليل المعرفي‘‘ من عدمه

هل يمكننا إثبات وجود
’’الجنة والنار‘‘ بالدليل ’’المعرفي‘‘؟
(خارج المنظومة الإيمانية)
الإجابة هي ’’لا‘‘ لا يمكن

هل يمكننا إثبات وجود
مخلوقات كـ’’الملائكة‘‘ بالدليل ’’المعرفي‘‘؟
(خارج المنظومة الإيمانية)
الإجابة هي ’’لا‘‘ لا يمكن

أي المقولتين أصَحّ
أنا ’’أعرف‘‘ (أو أعلم) بوجود الجنة والنار؟
أو
أنا ’’أؤمن‘‘ بوجود الجنة والنار؟

هل القول
أنا ’’أعرف‘‘ بأن نبي الله نوح صنع سفينة
أدخل فيها من كل حيوان زوجين صحيحة؟
أو القول
أنا ’’أؤمن‘‘ بأن نبي الله نوح صنع سفينة
أدخل فيها من كل حيوان زوجين أصَحّ؟

بطبيعة الحال
استخدام مفردة ’’أؤمن‘‘ بدلا من ’’أعرف‘‘
هي الأكثر صحة وحقيقية
والسبب في ذلك
أننا وفي حال استخدامنا لمُفردة ’’أعرف‘‘
فسيقع علينا تلقائيا
واجب تقديم ’’إثبات‘‘
للمعلومة من خلال استخدام ’’دليل معرفي‘‘
(قادم من خارج المنظومة الإيمانية)
وهذا ما لن يتوفر لنا في المسائل السابقة

بينما
عند استخدام مُفردة ’’أؤمن‘‘
سنكون قد حررنا أنفسنا من قيود ’’الإثبات‘‘ عبر استخدام ’’الدليل المعرفي‘‘
فالإيمان لا يحتاج إلى ’’دليل معرفي‘‘ لإثباته

على الجانب الآخر
فنحن نقول
أنا ’’أعرف‘‘ كيف أقود السيارة
ولا أقول
أنا ’’أؤمن‘‘ بأني اعرف كيف أقود السيارة
وأقول
أنا ’’أعرف‘‘ بأن الكويت تُطل على ’’الخليج العربي‘‘/ الفارسي
ولا أقول
أنا أؤمن بأن الكويت تُطل على ’’الخليج العربي‘‘/ الفارسي


وهنا نستخدم كلمة ’’أعرف‘‘ بأريحية
لأننا قادرين ببساطة على تقديم
أدلة ’’معرفية‘‘ تُثبت المعلومة التي ذكرناها
فبكل بساطة
يمكنني قيادة السيارة أمامكم
وبكل بساطة
يمكننا فتح تطبيق
Google Maps
أو أي خريطة
لمعرفة موقع الكويت وأنها تطل على البحر
الذي يسمى بالخليج العربي/الفارسي

والآن
لنسأل أنفسنا
هل يمكن للهندوس
أن يقدموا دليل ’’معرفي‘‘ من خارج منظومتهم الإيمانية
على وجود الإله ’’غانيشا‘‘؟


هل يستطيع البوذيون
أن يقدموا دليلا ’’معرفيا‘‘ من خارج منظومتهم الإيمانية
على وجود ’’تناسخ الأرواح‘‘؟



هل يستطيع المسيحيون
تقديم دليل ’’معرفي‘‘ من خارج منظومتهم الإيمانية
على أن يسوع ابن الله؟



هل يستطيع المسلمون
تقديم دليل ’’معرفي‘‘ من خارج منظومتهم الإيمانية
على قيام الطير الأبابيل برمي جيش أبرهة بحجارة من سِجيل؟



الإجابة على جميع الأسئلة السابقة
هي
عدم قدرة المؤمنين بهذه الوحدات الإيمانية
تقديم أدلة ’’معرفية‘‘
من خارج منظوماتهم الإيمانية
تثبت صحة هذه المعتقدات ’’معرفيا‘‘

وبالتالي
فيمكننا حسم المسألة والقول
بأن المسائل ’’الإيمانية‘‘
لا تنتمي إلى فئة المسائل ’’المعرفية‘‘
وهي أقرب
إلى المسائل ’’الاعتقادية الذوقية‘‘
التي تعتمد بشكل كبير
على التجربة الشخصية
والتفضيل الشخصي
ولا يمكن إثباتها بالأدلة ’’المعرفية‘‘ للأطراف الأخرى

ولذلك
ينطبق عليها ما ينطبق على مسائل
’’الاعتقاد الذوقي‘‘
وهو
القبول بعدم إيمان الطرف الآخر بها
وعدم الضغط عليه أو مضايقته لإجباره على الإيمان بها
سواء بالفعل أو القول أو الاتهام
بالجنون
والعناد
والمكابرة
وفي حال عدم قبول ’’المؤمن‘‘ بهذا الالتزام
وإصراره على فرض إيمانياته على الآخرين
فعليه بالضرورة
أن يقبل بأن يفرض الآخرين إيمانياتهم عليه
وأن يصفوه
بالجنون
والعناد
والمكابرة

-8-
الإيمان بالمعرفة

وبذلك
وبعد كل ما سبق
يمكننا استنتاج
أن معرفة الإيمان
تعني معرفة أن الإيمان
هو مرحلة متقدمة من الاعتقاد
وأن الاعتقاد هو مرحلة متقدمة من الظن

وبالتالي
فإن أكثر الإيمانيات يقينيةً
تعجز عن التفوق على ’’يقينية‘‘ المسائل المعرفية
والتي يمكن إثباتها من خلال تقديم ’’الأدلة المعرفية‘‘

وبالتالي
فليس من حق ’’المؤمن‘‘
أن يفرض إيمانياته على الآخرين
في الوقت الذي يعجز فيه
عن تقديم دليل (معرفي) لإثباتها

وقد يقول البعض
بأنني في هذا الاستنتاج
أشكك بالإيمان
وأطعن بالأديان
ولا أختلف كثيرا عن
الـ New Atheists
أو الملحدين الجدد
الذين يريدون نسف الإيمان
ومحو الدين

لكن هذا الاتهام غير صحيح
وهو مردود عليه

فأنا هنا أعطي لكل شخص
الحق في الإيمان بما يشاء أو يريد
بناء على تجربته الشخصية
وجيناته الإيمانية
وذوقه الاعتقادي
لكنني أحدد له حدود هذا الإيمان
ومساحته التي يجب ألّا يتجاوزها عند التعامل مع الآخرين
أي أننا
نعيد مَوْقَعَة هذا الإيمان وتهذيبه في حياة الإنسان
مع الحفاظ على مكانته المقدسة


ونحن في ذلك
ننسجم تماماً مع فكرة ’’الإيمان‘‘
في المنظومات الدينية نفسها
وللتدليل على ذلك
سنذكر هنا بعض الأمثلة ’’الإسلامية‘‘
التي توضح
بأن الإسلام والتراث الإسلامي
يفصل ما بين الإيمان والمعرفة أولا
ويعترف بأن يقينية المعرفة تتفوق على يقينية الإيمان ثانياً

-A-
الفصل بين الإيمان والمعرفة في القرآن
تبدأ سورة البقرة بالقول
﴿ألم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

ونجد هنا بأن النص القرآني
ربط بين ’’الإيمان‘‘ و’’الغيب‘‘
فلو كانت الإيمانيات ’’معلومة‘‘
أو يمكن ’’معرفتها‘‘
لانتفت الحاجة إلى استخدام مفردة ’’يؤمنون‘‘
وكانت مفردة
’’يعلمون‘‘
أو
’’يعرفون‘‘
هي الأنسب

ونلاحظ هنا
بأن القَصَص القرآني
يبدع دائما ويتجلى في ذكر قصص الأنبياء
والمشقات التي يتكبدونها
في نشر دعوتهم بين أقوامهم الكافرة
ويُعتبر ’’سلاح‘‘ المعجزات
من أهم الأسلحة التي يُسلح الله بها أنبيائه

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا
ما هي المعجزة!؟

من وجهة نظري
المعجزة في إطار موضوعنا اليوم
هي إنقاذ ’’معرفي‘‘ للـ’’إيمان‘‘
فالنبي أو الرسول يدعو قومه للإيمان بالله لسنوات طويلة
لكن بلا فائدة
فيضطر الله هنا لمساعدة النبي أو الرسول
بإحداث أمر ’’خارق لقوانين الطبيعة‘‘
ويكون هذا الأمر مستوفيا لشروط
’’الدليل المعرفي‘‘
فـ يشعر به الكفار ويتلمسونه بحواسهم الخمس البسيطة
وهذا ما يدفعهم للإيمان

مثال على ذلك
قصة موسى وسحرة فرعون
فتقول الآية 116 من سورة الأعراف
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ،
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ،
فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ،
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ،
قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ،
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾

وبذلك يكون إيمان السحرة برب موسى
لم يكن إيمانا مبنيا على ’’الدليل الإيماني‘‘
بل
إيمانا مبنيا على ’’الدليل المعرفي‘‘

ويمكننا هنا الانتقال إلى مثال ثالث
يدل على الفصل بين
الإيمان والمعرفة في النص المقدس
فنقرأ سورة ’’التكاثر‘‘ التي تنص على

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ،
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ،
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ،
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ،
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾

يؤكد النص المقدس في هذه السورة
بأن اليقين ’’المعرفي‘‘
لا يتحقق في الحياة الدنيا
وهي المرحلة الخاضعة للدليل ’’الإيماني‘‘
وذلك بقوله
’’سوف تعلمون‘‘
(أي سـ تعلمون بالمستقبل)
ولكنه سيتحقق في الآخرة
عند تقديم الدليل ’’المعرفي‘‘
وهو ’’رؤية الجحيم‘‘
(شرح الآية)

-B-
’’يقينية المعرفة‘‘ تتفوق على ’’يقينية الإيمان‘‘

أيضا تعترف النصوص المقدسة
بأن ’’يقينية المعرفة‘‘
أعلى درجة من ’’يقينية الإيمان‘‘

ويمكننا إثبات ذلك من خلال رواية
عن النبي محمد
جاءه رجل وهو بين أصحابه فسأله
عن الإسلام
وعن الإيمان
ثم سأله عن الإحسان
فأجاب النبي عليه
محمد:
الإحسانُ أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ،
فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ

نجد هنا بأن النبي محمد
كان باستطاعته أن يجيب بالقول
’’أن تعبد الله‘‘ فقط
لكنه أصرّ على إضافة
’’الرؤية‘‘
وهي ’’الدليل المعرفي‘‘
لأنه يعلم ضمنيا
بأن الإيمان + الرؤية (وهي ’’الدليل المعرفي‘‘)
يجعل عبادة المؤمن أكثر خشوعا وصِدقا

وننتقل هنا إلى قصة النبي موسى
وهو الملقب بـ
’’كليم الله‘‘
أي أنه كان يتكلم مباشرة مع الله
وبالرغم من ذلك
تذكر الآية 143 من سورة الأعراف
بأن موسى طلب من الله أن يمكنه من ’’رؤيته‘‘
﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

وبطبيعة الحال
رفض الله الاستجابة لهذا الطلب
لكنه عوَّضَ موسى بـ’’دليل معرفي‘‘ آخر
وهو جعل الجبل يتفتت أمامه

أما مثالنا الأخير
على إقرار النص المقدس
بتفوق
’’يقينية المعرفة‘‘
على
’’يقينية الإيمان‘‘
فيأتي من الآية 260 من سورة البقرة
حيث تذكر هذه الآية قصة
النبي إبراهيم
وهو يُلقب بـ خليل الله (أي صديقه)
حيث طلب من الله
أن يقدم له ’’دليل معرفي‘‘ وهو رؤية كيفية إحيائه للموتى
فسأله الله سؤال استنكاري قائلا
’’أولم تؤمن‘‘
فرد النبي إبراهيم بعفوية
’’بلى ولكن ليطمئن قلبي‘‘

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾

وبذلك يعترف أبو الأنبياء
بأن ’’الرؤية‘‘ أو ’’الدليل المعرفي‘‘
ستجعل إيمانه أكثر يقينية واطمئنانا

وبذلك
ننهي هذه المحاضرة بالقول
أن معرفة الإيمان حق معرفته
تجعلنا نعرف بأنه لا يخضع للدليل المعرفي

وبالتالي
لا يمكن لإثباته للآخر بدليل
من خارج المنظومة الإيمانية
ولذلك
فعلينا ألّا نتشنج أو نغضب
عند الالتحام بمن يخالفنا في الإيمان
ويمتنع عن الإيمان بما نؤمن فيه

وشكرا

1 comment:

Unknown said...

استمتعت بقراءة هذا المقال الرائع اتمني ان يستفيد منه الجميع. تحياتي عبدالكريم الغضبان